أمة الاستبداد والقطيعة مع الماضي

 

الملحق الثقافي:

أمريكا التي تعرف نفسها أنها أمة القطيعة مع كل الماضي، وهي تريد عالماً جديداً تراه وتخطط له، لم تقف عند حدود النظرية والحديث عنها، بل ربما سبق الفعل التنظير. وهذا واقع حقيقي يمكن أن نشير إليه من خلال ما قامت به في أمريكا وابتدأت بالهنود الحمر ومن ثم ثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم التي كانت إرثاً إنسانياً بلا حدود، لكن البيض الذين غزوا الأرض واحتلوها كان لهم رأي آخر.
إذن المرحلة الأولى من استبداد أمريكا الثقافي والاجتماعي وفرض عنصريتها، كانت بحد السيف والمدفع، وبالتالي كانت المجازر التي أزهقت أرواح أكثر من ٥٠ مليون مواطن أصلي هناك.
ومع توحد الولايات وموجة العبودية التي أثرت من خلالها، كان لا بد من فائض القوة أن يمتد فيما بعد إلى خارج حدود الولايات بعيداً عن استراتيجية عدم الخروج من القارة التي كانت متبعة..
وفي الموجات التي تلت سطوة القوة كانت موجة التدجين للعالم بوسائل تتناغم فيها السطوة العسكرية مع القوة الإعلامية ومدافع هوليوود التي قصفت العالم من خلال السينما، وقد تنبهت دول الغرب إلى هذه الموجة من الغزو الأميركي لها وللعالم.
وتوالت أدوات الاستبداد الفكري والتدجين من خلال تضافر الإعلام وعلم النفس والتربية والغزو الثقافي. فكيف يفكر العقل الأميركي وكيف يستبد ويستعبد العالم .
مئات الدراسات صدرت في هذا الإطار.. وربما كان من أهمها ما قدمه «العقل الأميركي يفكر» للباحث شوقي جلال، ومن ثم كتاب «الغزو سنة ٥٠٢ مازال مستمراً» لنعوم تشومسكي ومناسبة صدوره حينها مرور خمسة قرون على غزو البيض للولايات المتحدة الأميركية. ويمكن أيضاً أن نقع على المزيد من الإضاءات حول ذلك فيما قدمه منير الحمش في كتبه عن الإبادات التي مارستها الولايات المتحدة الأميركية عبر تاريخها.. الإبادات الجماعية والثقافية وغيرها.
استبداد ثقافي
ما تريده آلة التدجين الأميركية خلاصته أن يصبح الإنسان مجرد شيء، سلعة، آلة. وهذا يعني أنه مقاد بحبلها الذي تشده بها أنى ومتى وكيفما شاءت، تقطعه به، ترميه في قاع الطين.. لا يهم، بل المهم أنه مقاد مسير. فكيف يحدث ذلك؟
العقل الأمريكي بمعانيه المختلفة، وبهذا الحضور المهيمن في العالم لم يعد مجرد موضوع للدراسة أو مجرد مشكلة خروج عن الذات المطروحة للبحث، بل بات قوة مؤثرة كما تشير المراجعات المهمة للعقل الأمريكي. ودراسة كتاب شوقي جلال الذي شغل الكثير من النقاد والمفكرين في العالم، وفي الخلاصات التي توقفت عنده يمكن الوقوف عند ما جاء في صحيفة الوطن العمانية: في نسيج خبرات الذات التي هي أداة لصناعة العقل القومي أو الإطار المعرفي القيمي من منطلق التحرر والبناء والنهضة. لقد تبنى الأميركيون نهجاً براغماتياً في السياسة والحياة، حيث الغاية والنجاح فيها هما الحكم والفيصل. ولم تكن السياسة أبداً معركة بين الخير والشر، بل هي صراع مصالح في المقام الأول. والوجود الاجتماعي ساحة عراك، ونزال بين هذه المصالح، والمصالح متغيرة. ولذا فإن السياسة شأن التجارة والأعمال لا تلتزم بمبادئ ثابتة، وكأنها نجوم هادية، بل تلتزم بالمصلحة أينما كانت بأي ثمن، ويكون نهجها عملياً، أي النهج المثمر المحقق للمصلحة المرجوة سواء اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية. والحقيقة الثابتة في المجتمع الأمريكي أنه إذا ما اقتضت متطلبات السياسة الخارجية تعديلاً في المبدأ السياسي الداخلي، فإن هذا التعديل سرعان ما يتحقق، فالسياسة شأنها هنا شأن التجارة سواء بسواء، وهذه حقيقة عبر عنها المفكر الأمريكي جيفرسون، حين قال إن ما هو عملي يجب أن تكون له الغلبة والسيطرة على النظرية الخالصة. وهكذا يسقط الالتزام المبدئي، ويغدو المرء حراً ديناميكياً في حياته وعلاقاته، وليس جامداً.
ولهذا حسب هذه النظرية، فإن الإنسان دائماً مع حركة المجتمع وبسببها بحاجة إلى إعادة تفسير وتأويل وصياغة التقليد، أو ما ورثه من مثل عليا وأخلاقيات أو أيديولوجيات. ولكنه لا يقوم بذلك مهتدياً بمعايير علمية موضوعية تعبر عن حاجات المجتمع، بل مهتدياً وملتزماً بمعايير المصلحة الذاتية. وحاول المثقفون الأمريكيون خلال فترات عديدة تقديم فلسفة متسقة، وتضافرت جهودهم في ذلك، وتعددت نوادي الفكر في مختلف المجالات وصولاً إلى هذا الغرض في محاولة لتجميع وإثبات القيم والأفكار التي صاغت العقل الأمريكي، وتحكم السلوك والمزاج الأمريكيين، وترتبط ارتباطاً وثيقاً بالعالم، وقادرة على تبرير الوجود الاجتماعي بمكوناته المختلفة، ومن ثم قادرة على توجيه النشاط الفلسفي ملتزماً بقواعد المزاج الأمريكي، أي نسقاً عملياً يحقق الغرض والمصلحة.
كذلك فإن الحاجة إلى فلسفة كونية تولدت في إطار يشهد بالتعارض بين نتائج العلم والدين، وبالمقارنة، بل وبالتمزيق الوجداني بين قيم صيغت في قوالب براقة، وبين واقع مرير ينذر بأخطار تحولات اجتماعية هدامة وصراع يعتمد على الفكر وأيديولوجياته، فلكل فريق تنظيمه وأيديولوجيته. والاعتقاد هو حلبة الصراع والهزيمة والانتصار، وحيث أن هذا هو مضمون الصراع، فلا بأس من أن يكون الهدف، هدف القوى المهيمنة خلخلة أو تقويض دعائم الاعتقاد عند الخصوم، وغرس اعتقاد مغاير، وهو ما يذكرنا بأصالة النهج الأمريكي الآن متمثلة في الدعوة إلى نهاية الأيديولوجيات القديمة.
وانعكس أيضاً مناخ الشك واللايقين ومزاج اللاعقلانية والتناقض والمفارقة على فكر المثقفين الذين أسهموا كل بنصيب مختلف في سبيل صياغة الأيديولوجية الجديدة على أساس نظرية متسقة. وها نحن نجد المفكر جون فايسك أحد الرواد الذين أسهموا بدور في صياغة الجانب الخاص بالتاريخ من أيديولوجيا المجتمع الأمريكي المتطلع إلى الهيمنة على العالم، يقول: الإنسان والطبيعة يجتازان معاً الزمن الذي تغوص بدايته ونهايته في ظلمات الأبدية الحالكة. وهكذا كشف الفكر الأمريكي بعامة والفلسفي بخاصة عصره الذهبي الذي تمثله البراغماتية عن نزوع قوى واضح للشك، فيما هو عقلي، وتفسير كل من العقل والمعنى في ضوء فهم سلوكي أو إجرائي، والتزاماً بهذا النهج الذي يمثل قسمة مميزة لهذا الفكر.
هل الحرية قيمة استعمالية؟
دعا صانعو الفكر الأمريكي إلى غرس اعتقاد في أذهان الناس مفاده بأن فكرة الحرية هي قيمة استعمالية، وأن الحياة إرادة، ويعتقد في مضمونها الذي اصطنع بين سديم أو تيار المدركات الحسية. ولم يهتد الفكر الأمريكي إلى دراسة الواقع الموضوعي إلا من حيث وجهة نظر معينة تقوم على صياغة مستقبل عالمي يخدم مصالح الولايات المتحدة، وفق مبدأ الثواب والعقاب، واللذة والألم، والتقييم مبني هنا على أساس المنفعة، وكيفية بناء أمة حرة تكون قادرة على صياغة أنماط التعايش بين القوميات المختلفة، فالمهم تحديد وجهة نظر ثاقبة للأمور بحيث تلبي احتياجات المواطنين للحرية والديمقراطية، وتحقيق سلام يخدم المصالح، فليس هناك أصدقاء دائمون أو أعداء دائمون من قبل الفكر الأمريكي، ولكن هناك مصالح يجب السير في طريقها، وهو توافق فكري أمريكي متطرف. ولم يأت جهد صانعي الفكر الأميركي الرسمي مصادفة أو من فراغ، بل كان جهداً واعياً بالدور والهدف المنوط، وتعبيراً عن تحولات اجتماعية، وعن رؤية عالمية مواكبة في هذا الفكر كأداة تكفل لها البقاء.
إن الحرية الفردية أبعد ما تكون عن مطابقتها بالفردية الأنانية، وأبعد ما تكون كذلك عن الإرادة الحرة، بمعنى رفض الضرورة وإسقاط قوانين حركة الواقع وعلاقات المجتمع. حقاً إنها ليست حرية مطلقة على نحو رومانسي فج يلقي بالمجتمع كله إلى التهلكة تحت إغراء رنين زائف. ولكن جميع الناس يتمتعون بدرجة ما من الاستقلال في اختيار أهداف نشاطهم، وإيثار هذه السبل على غيرها في بلوغ الأهداف المنشودة، وفي التحكم بظروف الحياة، ويتسق الفكر العلمي للتاريخ مع النزعة الإنسانية الحقة، ومع المثل العليا لكل نهضة اجتماعية.
وإذا كان حقاً أن الظروف المحيطة بالإنسان تصوغ حياته، فإنه من الضروري حل الإشكاليات الخاصة بالحرية عن طريق الإيمان بالفاعلية المتبادلة بأن نجعلها ظروفاً إنسانية، أي أن تكون ظروفاً تكفل للفرد الاجتماعي حرية التطور الارتقائي الشامل. وعمد كثير من الكتاب والمفكرين الأمريكيين بعد رسوخ أقدام البراغماتية منهجاً وأداة للتفكير إلى أسلوب خادع وخاطئ؛ إذ يرى كثير منهم أن الحرية الفردية مفهوم اقتصادي أكثر منه سياسي، وهي محاولة مجتزأة تفضي إلى اختزال المفهوم دون رؤية شاملة، وعدم مراعاة للهوة الاجتماعية التي صنعتها الرأسمالية اللامحدودة التي تركز على المال دون القيم، وتخضع الجميع لحسابات الربح والخسارة دون مراعاة للأخلاقيات.

التاريخ: الثلاثاء23-6-2020

رقم العدد :1003

 

 

آخر الأخبار
وزارة الثقافة تطلق احتفالية " الثقافة رسالة حياة" "لأجل دمشق نتحاور".. المشاركون: الاستمرار بمصور "ايكو شار" يفقد دمشق حيويتها واستدامتها 10 أيام لتأهيل قوس باب شرقي في دمشق القديمة قبل الأعياد غياب البيانات يهدد مستقبل المشاريع الصغيرة في سورية للمرة الأولى.. الدين الحكومي الأمريكي يصل إلى مستوى قياسي جديد إعلام العدو: نتنياهو مسؤول عن إحباط اتفاقات تبادل الأسرى إطار جامع تكفله الإستراتيجية الوطنية لدعم وتنمية المشاريع "متناهية الصِغَر والصغيرة" طلبتنا العائدون من لبنان يناشدون التربية لحل مشكلتهم مع موقع الوزارة الإلكتروني عناوين الصحف العالمية 24/11/2024 رئاسة مجلس الوزراء توافق على عدد من توصيات اللجنة الاقتصادية لمشاريع بعدد من ‏القطاعات الوزير صباغ يلتقي بيدرسون مؤسسات التمويل الأصغر في دائرة الضوء ومقترح لإحداث صندوق وطني لتمويلها في مناقشة قانون حماية المستهلك.. "تجارة حلب": عقوبة السجن غير مقبولة في المخالفات الخفيفة في خامس جلسات "لأجل دمشق نتحاور".. محافظ دمشق: لولا قصور مخطط "ايكوشار" لما ظهرت ١٩ منطقة مخالفات الرئيس الأسد يتقبل أوراق اعتماد سفير جنوب إفريقيا لدى سورية السفير الضحاك: عجز مجلس الأمن يشجع “إسرائيل” على مواصلة اعتداءاتها الوحشية على دول المنطقة وشعوبها نيبينزيا: إحباط واشنطن وقف الحرب في غزة يجعلها مسؤولة عن مقتل الأبرياء 66 شهيداً وأكثر من مئة مصاب بمجزرة جديدة للاحتلال في جباليا استشهاد شاب برصاص الاحتلال في نابلس معبر جديدة يابوس لا يزال متوقفاً.. و وزارة الاقتصاد تفوض الجمارك بتعديل جمرك التخليص