الملحق الثقافي:حسين ورور :
تجوّل عادل محمود في بعض الأمكنة من العالم، ولم يكن سائحاً البتّة كآخرين، وفي رأسه تحتشد صور لقرية عين البوم، قرية آبائه، وأجداده بذاكرته كمكان مؤثّث ليعيش فيه أناس جاؤوا إليه ذات يوم بعيد ينشدون فيه ديمومة العيش بأمان.
يختزل عادل محمود من عالم هذه القرية براءتها، ويغادرها على مضض لينشد فضاء يتّسع لجناحيه، وفيه ينفض عنهما غبار الطفولة.
وعين البوم ككلّ القرى. تحتفل كلّ صباح بشروق الشمس، وتحتمل الخطو الغريب الثقيل، وتمنح حبّاً سخيّاً لذوي القربى، والجوار، والزائرين، وعلم البلاد…. هي ذات القرى، التي تضجّ بالحسرات، والندم، لتفرّ كدمع العين منها خيرة أهليها بحثاً عن أود العيش، وهواء الحريّة.
“إلى الأبد… ويوم” روايته، التي تشكّل في أبعادها، إشكالات وجوديّة، في سيرة إنسان، وسيرة قرية، وسيرة وطن. إنسان أحبّ الحياة، ولم تبادله الحياة الحبّ، وقرية تريد أن تكون بريئة خضراء، ولم يتحقّق لها ما تريد، ووطن حرّ، وعزيز، في عنقه طوق ياسمين، وعلى جبينه تاج نصر، وعلى صدره وسام؛ لكن يتكالب عليه أعداء الخارج، وفيه أدران الداخل، التي تعيقه عن النمو الذي يجب أن يكون.
هذا الروائي المتنوّر يعيش قلق أيّ متنوّر عربيّ، وهو يرى حال الأمّة، التي تطبق جناحيها على 105 ملايين أميّ عربيّ يشكّلون التحدّي الأكبر للثقافة العربيّة، ويرى ضغوط 24 سلطة رقابيّة على الثقافة، ويرى الدوّامة، التي تكتنف الثقافة، في التعامل مع التراث، والحداثة، والعولمة، وغيرها، ويرى الإحباط، والتردّد، والحيرة، في مسألة الذات العربيّة، وقدرتها، على التجاوز، والتخطّي، والتطوّر، والشلل الذي يمنعها من الحركة بسبب الخوف الذي يجب تحدّيه(1) ليكون ذلك همّاً واضحاً، في روايته، وربّما كان المتّكأ الأوّل فيها، والمستند إلى (كافكا) القائل: “أكتب غير ما أتكلّم. أتكلّم غير ما أفكّر. أفكّر غير ما يجدر بي أن أفكّر!!”(2) هو همّه الأوّل، وعلى الرغم ممّا عبّر به بمقولة (كافكا)، لم يكن الخوف ذلك العائق الكبير في سيّال رويّه، فقد اقتحم عوالم الثالوث المحرّم من موقع الدرجة صفر ممارساً أقصى ما يمكنه دون حساب لأيّة رقابة سوى رقابة الضمير، التي وُضعت عنواناً لأهل الفكر ذات يوم، كي يعملوا بها، وللأسف لم يعمل بها سوى بعضهم، لأسباب شتّى، أبرزها الخوف المزمن الكامن في رؤوسهم.
يتفرّد عادل محمود لنراه في تشكيلاته السرديّة، واندفاعاتها، وموجاتها، وموجاتها الارتداديّة لم يمارس فعل الكتابة الغائيّة، أو العبثيّة في روايته، وعن سابق تصميم، فيها من الآراء ما يجعلها وثيقة انتمائه إلى ذاته. نلمس ذلك بعد أن عاد إلى القرية، وبنى في الغابة منزل عزلته، وجعل بابه، من أخشاب عشوائيّة تتيح له تأمّل الفضاء، في أرض صغيرة تكون فيها أشجارها المتنوّعة، وكلّ واحدة منها باسم من أحبّهم، في هذا العالم.
يقول بعد إنجازه منزله البدائيّ هذا: “لقد انتميت إلى أصغر وحدة جغرافيّة، وانتهى الأمر. انتميت “وسأكتب وثيقة انتمائي هذه” إلى نفسي فقط، فرداً مفرداً مستقلاًّ وحيداً فريداً ومسؤولاً عن بضع سنوات تبقت لي قبل أن يحلّ الغسق الذي نعرفه في حينه كمساء أخير.. وهكذا سيكون واضحاً تدخّلي المسبق بطريقة وطقوس الموت، فلا أريد أن يعيدني صكّ العائليّة، ولا الدينيّة إلى الانتماء مجدّداً بعد الموت إلى أيّ منها.(3)
أمّا عوالمه التي ارتادها، ومحطّاته التي توقّف فيها، أو عندها، والانتقائيّة، وغير المزوّقة، والملمّعة، والهجينة، وقناعاته المدروسة بعناية: كلّ ذلك لم يسر به على خطّ سرديّ أفقيّ، ليقدّم رواية تقليديّة، بل كان يشقّ كما الماء مجراه الطبيعيّ، فنراه ينتقل بالحدث، وينتقل ما بين أمكنة واقعيّة حاضنة للإشكاليّات، التي تقصّد وضعها نصب عينيه، كتجارب عاشها، في أزمنة واقعيّة، لمراحل (أوجدته) منذ ولادته، وإلى الآن، مضيفاً إليها هاجسه الوجوديّ بالآتي من أزمنة تصل (الآن) بـ (الأبد)، وما (بعد الأبد بيوم)، وتشكّلت كعتبة لنصّه الروائيّ، وفضاء له حشد فيه رؤاه دون مواربة، ودون اللجوء لمخاتلة القارئ، لتكون للمتلقّي كامل الحريّة، في أن يكون شريكاً فعليّاً بنصّه، وشاهداً، وبالتالي شريكاً في (المصير)، أو لا يكون مع إدراكه أنّ هناك من سيرفض هذه الشراكة؛ فهو لم يلجأ إلى السرد التحذيريّ، أو المعابث مع القارئ، بل إلى الإمكانات، التي تجعله في منتهى اليقظة، ليتلقّى الصدمات ذاتها، التي تلقّاها هو ذاته، وتجاوزها معافى، بل أكثر قوّة، تماماً كمن يتلقّى ضربة على الظهر، وتقوّيه، حين لا تكسره، وجاءت المتّكآت كعكبر النحل، يضيف قوّة لخليّة النحل، وكانت كنقاط ارتكاز يستند إليها، لينطلق في رحلته حتّى آخر الروايّة، وقد لمسنا ما ورد في المتّكأ الأوّل عن (كافكا) كإشكاليّة وجوديّة، لينتقل إلى سواه، في فضاء نصّه، كدلالات قصديّة، ومرجعيّات لوضع وجوديّ كقول هاملت: “أيمكن أن أوثق داخل صدفة الجوز، وأعدّ نفسي ملكاً على فضاء اللانهاية؟!”.
وقد تناولت جميعها إشكاليّات وجوديّة يستدرج المتلقّي للدخول إلى دوائرها، ليتناصّ بحواسّه مع مراميها، وتساؤلاتها.
تجليّات المكان
يدعونا الروائيّ إلى تأثيث الأمكنة التي ارتادها، في شغله الفنيّ مع السرد، وهو يرسم أشكالها، كيما نراها بحدسه هو، بدءاً من قريته، التي غادرها دون سابق تصميم، إلى ما سينتهي به المطاف، وحتّى المكان الافتراضيّ، الذي سيعود منه إليها، وخوفه ألاّ يعود. يزوّد نسيانه بالصور، التي يخزنها، ولم يربط أحلام العودة بـ (كسّارة البندق)، التي كانت حبّه الأوّل، بعد أن اختار الترحال كغجريّ متشفياً، من القوالب، التي تصنع الحياة أبناءها فيها. اختار مكاناً تحت أقدم شجرة سنديان، وهيّأ قبراً لواقف، وقال لفتى سأله عن سبب ذلك:
“نحن لا نحبّ الغجر. كنّا نراهم، في مخيّماتهم المرقّعة، ودوابهم الهزيلة أشخاصاً ذوي سمعة سيئة. يسرقون الأطفال، والأشجار، ولكنّي أحبّهم خاصة بعد أن رأيت أرواحهم المجروحة، في أكثر من مكان في هذا العالم، وأحدهم قال:
ادفنوني واقفاً
لقد أمضيت حياتي كلّها
راكعاً على ركبتيّ
سأعود… أي سأموت هنا، أي سأعود سفراً معاكساً، فليس للموت قيمة سوى أنّه (أكبر حلّ لأصغر مشكلة هي الحياة) (4)
ويعود في سفره المعاكس، بعد أن أصبحت الأمكنة التي ارتادها، على مسافة واحدة منه، مع المكان الأساس، الذي خرج منه “قرية عين البوم” ليجد اسمها قد تغيّر إلى “عين الورد”، ولكنّ ذلك لم يعن له بشيء بعد أن تآكلت قيم كثيرة في القرية، وتلوّثت براءتها، فأضاف له ذلك المزيد من الفقد والغياب، وصار المكان لديه هو الزمن، الذي يتأبّد تحت ثقل حمولته، من التخبّط في دوائر الوقت، ومحطّاته التي تتراكم فيها الإحباطات والألم والخسارات.
لكنّ هذا لم يستمر إلى ما لانهاية، فقد حسم الروائيّ ذلك بعودته إلى مكانه الأصليّ، الذي انطلق منه، ليختار عزلته فيه؛ ولتعزيز الإمعان هذا اختار المكان المناسب لمسائه الأخير، وكان قد اختار قبله المكان الذي يكتب فيه روايته – سيرته – بما اصطفى لها من وقائع، وشخصيّات، ومقولات جاهزة، وكلّ ما لم يتحقّق من أحلام.. أيضاً، وما يحتفظ به من ذكريات سعيدة.
الزمان في نسيج الرواية
يبدأ الزمانيّ في السرد، بزمن قديم. زمن مضمر بتأسيس قرية الروائيّ: يقول: “منذ البدايات” إلى أن يقول: “سأعود يوماً إلى تلك القفار” كزمن مضمر أيضاً، وثمة أزمنة مضمرة
التاريخ: الثلاثاء23-6-2020
رقم العدد :1003