الملحق الثقافي- كمال الحصان:
كان سقراط (469 – 399 ق.م) العالم والمعلم والعلم، فيلسوفاً كبيراً، ظلت البشرية تنهل وتتأثر بأفكاره ونظرياته، قروناً طويلة، مع أنه لم يترك لنا، أي مؤلف أو كتاب أو مخطوط، فقد وصلت إلينا أفكاره ونظرياته العظيمة، عن طريق تلاميذه وطلابه ومريديه، وغني عن القول إنه من أشهر الشخصيات التاريخية التي أثرت في الحضارة البشرية بعمق كبير، أما طه حسين عميد الأدب العربي، فلم يترك لنا سوى اثنين وعشرين كتاباً مطبوعاً، وهو من هو على الساحة الأدبية العربية وحتى العالمية، وأجزم أن هذا وذاك، لم يكونا مقصرين في إصدار الكتب، بسبب غلاء الورق أو عدم توافره، ولا بسبب نضوب العبقرية …؟!
ما دفعني للكتابة حول هذا الموضوع هو هذا الكم الهائل من الكتابات السياسية التي نقرؤها كل يوم على صفحات الصحف والمجلات العربية، أو في الكتب السياسية التي تتدفق بغزارة غير عادية، دون أن يتوفر في الكثير منها، الحد الأدنى، إذا جاز التعبير، من مقومات هذا النوع من الكتابة المقومات التي نعتقد أن في مقدمتها التحليل السليم والتقييم الدقيق والرؤية الفكرية الخاصة بالكاتب، ناهيك طبعاً عن الموضوعية والمعرفة، لأن الكاتب السياسي، كما أعتقد، هو معلم للقارئ، وهو سراج طريقه، ولذلك وجب أن يكون هذا السراج منيراً.
إن الكتابة السياسية، بشكل عام، وبغض النظر عن قيمتها الفكرية ومصداقيتها، قد تذهب في الزمن القريب أو البعيد، لتصبح يوماً ما، جزءاً من التاريخ المقروء، بعضها كجزء من مهماته، والآخر كجزء من مهملاته وفي الحالين تكمن الخطورة، وعزاؤنا حيال ذلك، وفي كل الأحوال، أن العقل يبقى هو الحكم والصدق هو الغربال، والقارئ هو الفيصل بين المبدع الصادق وسواه، كما بين الحقيقة وسواها.
من المعروف أن الكتابة الجيدة تكتب لتقول شيئاً للعقل، لا لتملأ فراغاً في رفوف المكتبات والخزائن، وتأتي لتضيف شيئاً لما سبق وقاله الآخرون لتعطي رأياً أو رؤية أو فكراً أو تأويلاً، في مسألة من المسائل، أو موضوعاً من المواضيع ومن الإنصاف القول، إنني إنما أعني بهذه الملاحظات، نفراً قليلاً من مدعي الكتابة السياسية، وبصورة خاصة، أولئك الذين باتوا يصنفون أنفسهم حسب عدد الكتب التي ألفوها، هذه الكتب التي ليس لها من قيمة فكرية أو ثقافية، بل إن معظمها خواء وزبد وبعد عن الفكر والثقافة وحتى السياسة.
وهنا، وبموضوعية، أستثني، كتابات العديد من الكتاب السياسيين المرموقين الذين أنزههم عن الإطراء والمديح – مع أنهم أهل له – لأن قيمتهم وصدقهم وثقافتهم، فيما يكتبون.
ما أقوله هنا هو مجرد ملاحظات قارى معني ومهتم، وملاحظ لما يكتب في هذا المجال، ولا أدخل ما أقوله في خانة النقد الثقافي لهؤلاء الكتاب مثلاً، لأن النقد يكون حيث توجد العبقرية والبيان والكتابة الحقيقية، كما أنني وبكل تواضع، لا أعتبر نفسي ناقداً في أي مجال أدبي، أو سياسي، أو ثقافي، وإنما قصدت بما أكتبه الآن، أن أنبه بعض «الكتاب» الذين لا يستوون مع الذين يعلمون، والذين يجهلون أنهم يجهلون، وتلك والله ثالثة الأثافي من يستسهلون الكتابة، لأنهم يعتقدون أن القارى جاهل يجهل جهلهم، أو لا يقرأ وبالتالي، لن يكتشف ضلالهم… والله الموفق …؟؟!
أزعم أن الكتابة السياسية هي علم ملحه الأدب في أغلب الأحيان، وعبقه الحرفية، ودلالته الرأي والموقف، وأما قراء هذا النوع من الكتابة فهم ما يمكن تسميتهم قراء موهوبين»، ذلك لأنهم يتسلحون عند القراءة، بمسبارهم الفكري الثاقب، معياراً فعالاً، يجيدون عن طريقه قراءة المحتوى وتقدير المستوى بدقة وحصافة، والأهمية النهائية لهؤلاء القراء، تكمن في أن كل عمل فكري، في النتيجة، سوف يقع في ميزان القارئ، ليقول فيه الكلمة الفصل.
ربما يكون الدافع الأهم، وراء إقدام بعض مستسهلي الكتابة السياسية هؤلاء على استجهال القارئ والتجرؤ على الكتابة من دون توفر أسسها، هو اعتقادهم القاصر، بأن «الرقابة» على «الجودة»، التي قد يمارسها القارئ، قد ضعفت أو اختفت هذه الأيام، بسبب عدم توقع القارئ أصلاً، أن يقع بصره، على كتابة ذات قيمة، وأكاد أقول، إنهم قد يعتمدون على (عدم) وجود قارئ أصلاً، وليس على وجوده، أو أنهم قد يعتمدون في نشر كتاباتهم هذه وعدم انكشاف هشاشتها، على يد القارئ التي تضعهم على الرف، وليس في العقل الذي يعقل ويعمل.
صحيح أننا في عصر المعلومات المبذولة بكثرة أمام الجميع، وبمنتهى السهولة والبساطة بفضل ما تقدمه لنا الشبكة الذكية في الحاسوب، ولكن بالمقابل، وبسبب غزارة المعلومات هذه، وتوفرها، فقد أصبح هذا الزمن هو زمن صعوبة البحث عن الحقيقة، ومشقة التنقيب عنها، في خضم أكوام المعلومات المطروحة في كل مجال وميدان وخاصة في مجال الكتابة السياسية، لذلك بات أغلى ما يمكن ان يحتويه المقال أو الكتاب السياسي هو الرأي والتحليل ووجهة النظر، والاستنتاج السليم، وليس المعلومة أو الخبر.
متى يعلم البعض، أن امتلاك زمام اللغة، وإتقان سرها الكامن، في أن «الإعجاز في الإيجاز» هما المنجى الوحيد، من وقوعهم في شرك التكرار المنفر والصياغة الركيكة، سواء في ذلك تكرار الفكرة، أو تكرار التعبير عنها، وأن الكتابة التي لا فكر فيها ولا لغة بليغة تحتويها، قد لا تعدو كونها (تأتأة) سياسية لا أكثر ولا أقل.
هنا تبرز أهمية المسؤولية الأخلاقية والوطنية للمؤسسات الفكرية والثقافية، ودور النشر الرسمية والأهلية، بغض النظر عن مسؤولية نواظم البشر والإعلام، إزاء ما ينشر من أعمال رديئة، لا تتقن حتى أسلوب عرض وجهة نظرها، وهي أعمال فيها من الجهل، أكثر مما فيها من أي شيء آخر … متى ندرك الفرق بين الزبدة والزبد ومتى نعرف أن هذا الفرق يلتقطه بسهولة عقل القارئ مهما كان الغلاف مزيناً بشعارات براقة ومعالجات قاصرة تسيئ حتى إلى معنى الشعار نفسه وتسطحه.
إذا كانت الكتابة الأدبية موهبة وليست تجربة، فإن في الكتابة السياسية، يصح القول إنها أفكار وابتكار، وليست تکراراً واجتراراً.
العدد 1214 – 19 – 11 -2024