الثورة – فؤاد الوادي:
شهدت العلاقات السورية الروسية خلال ثمانية عقود العديد من المحطات والتعاون المشترك الذي أثمر في وقت من الأوقات نجاحات مشتركة لا تزال محفورة في ذاكرة الزمن، لاسيما في بدايات تلك العلاقات.
غير أن المصالح الضيقة للنظام المخلوع ، حولت تلك العلاقة إلى جحيم على الشعب السوري بعد أن استثمرها في الدفاع عن كرسيه وحكمه وبقائه في السلطة، فكان أن دفع السوريون الثمن غالياً، وتحملت روسيا جزءاً كبيراً من المسؤولية لأنها دافعت عن ذلك النظام الذي قتل شعبه ودمر أرضه.
لقد وقفت الدولة الروسية( الاتحاد السوفياتي سابقاً) مع قضية الشعب السوري في نيل استقلاله وحريته من الاستعمار الفرنسي، وسانده فيما بعد بالأمور الاقتصادية والدعم اللوجستي في كثير من مراحل نهوضه، لكن ذلك الدعم والتعاون سرعان ما تحول إلى هيمنة على القرار السوري، لأنه استند إلى مناصرة الظلم والطغيان على الحق ومطلب الشعب السوري بالحرية والخلاص من الاستبداد.
وبعد انتصار ثورة السوريين وسقوط نظام الطاغية، بدأت ترتسم ملامح علاقات مختلفة بين دمشق وموسكو تقوم على الندية والمصلحة المشتركة بعيداً عن الهيمنة وسياسة المحاور، حيث شهدت الأشهر الماضية التي أعقبت انتصار الثورة حركة دبلوماسية مكثفة بين البلدين، بهدف تصحيح العلاقة بين البلدين وإعادة ترميمها وبنائها على أسس وركائز واضحة وصحيحة ومتينة.
العلاقة بين الدولة السورية الجديدة وروسيا بدأت في شباط الجاري، باتصال هاتفي بين الرئيس أحمد الشرع ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، وكان هذا الاتصال بمثابة إعلان لبدء مرحلة جديدة في العلاقات السورية الروسية، ثم تلا ذلك زيارة وزير الخارجية أسعد الشيباني إلى موسكو في تموز الماضي، ثم زيارة وفد روسي رفيع إلى دمشق برئاسة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك حيث أكد الشيباني آنذاك أن العلاقات بين سوريا وروسيا “عميقة وتاريخية، ولكنها لم تكن متوازنة دائماً”، معتبراً أن “الدعم الروسي الصريح” لسوريا الجديدة سيكون في مصلحة سوريا والمنطقة.
أما ألكساندر نوفاك، نائب رئيس الوزراء الروسي ، فقد أشار إلى أن تطوير العلاقات مع سوريا يتم تحت إشراف الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، معتبراً سوريا دولة واعدة في الشرق الأوسط، وأن العلاقات المستقبلية بين البلدين ستكون مبنية على الاحترام المتبادل والتعاون الثنائي.
وفي مطلع الشهر الجاري زار وفد عسكري سوري رفيع موسكو بهدف تطوير آليات التنسيق العسكري والأمني بين وزارتي الدفاع في البلدين.
ضمن هذا السياق، تأتي زيارة الرئيس الشرع إلى موسكو غداً الأربعاء، لفتح صفحة جديدة في العلاقات من جهة، ولحاجة مشتركة لكلا البلدين تفرضها المصالح المتقاطعة لدمشق وموسكو في كثير من الملفات والقضايا ، والتي عبر عنها الرئيس الشرع في وقت سابق بقوله :” إن لسوريا ارتباطات متعددة مع روسيا سابقاً وينبغي الحفاظ عليها وإدارتها بطريقة هادئة ورزينة”، لا سيما في خضم التحديات الجمة التي تواجه الدولة السورية، خلال المرحلة القادمة.
من هنا يبرز التعاون مع روسيا ، وبحسب محللين وباحثين سياسيين ، كخيار استراتيجي ولعدة أسباب جوهرية، أهمها مواجهة التهديدات الإسرائيلية، حيث أظهرت الأحداث عجز الغرب عن لعب دور الضامن ضد التدخلات الإسرائيلية، بينما تمتلك روسيا خبرة وقدرة على إدارة التوتر في الجنوب السوري ،كما أن روسيا تمتلك خبرة عميقة في الملف السوري وعلاقات متشابكة مع مختلف الأطراف، من قوات سوريا الديموقراطية “قسد” في الشمال الشرقي إلى المكونات المحلية في الساحل والجنوب، وهو ما يمنحها قدرة فريدة على لعب دور الوسيط في النزاعات الداخلية وتعزيز استقرار البلاد.
هذا بالاضافة إلى المصلحة السورية باللعب على وتر التناقضات والاختلافات بين الدول الكبرى من أجل مصلحتها الوطنية ، وضمن هذا السياق يمكن فهم المصلحة السورية بالإبقاء على القاعدتين العسكريتين الروسيتين على أراضيها، وهما قاعدة حميميم الجوية في اللاذقية وقاعدة طرطوس البحرية، وهذا ما أكده وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في أحد تصريحاته عندما قال : ” إن الجانب السوري مهتم بالحفاظ على قواعدنا العسكرية هناك، وكما أكد الرئيس بوتين مراراً، فإننا نستند إلى مصالح الجمهورية العربية السورية”، مضيفاً أنه “من الواضح أنه في ظل الظروف الجديدة، يمكن لهذه القواعد أن تلعب دوراً مختلفاً وليس مجرد موقع عسكري”.
وبحسب الخبراء فإن هذا يعكس فهما سورياً لفوائد هذا الوجود، الذي يؤمن غطاءً استراتيجياً ضد العدوان الخارجي، ويشكل ورقة ضغط في التفاوض الإقليمي، كما يضمن تدريب ودعم الجيش السوري الذي يعتمد في تسليحه بشكل شبه كامل على المعدات الروسية.
كما أن دمشق تستند في تفاوضها مع موسكو على اتفاقيات القواعد والعقود الطويلة الأمد لضمان احترام سيادتها، وهو ما أكده الرئيس الشرع بقوله :” إن العلاقة مع روسيا، اتخذت نهجاً براغماتياً”، ووصفها بأنها “وطيدة” و”طويلة الأمد”، وأن هناك “مصالح استراتيجية” مشتركة بين دمشق وموسكو، وهذا ما عبّر عنه أيضا وزير الخارجية أسعد الشيباني، عندما أكد أن الهدف هو بناء “علاقة صحيحة” قائمة على الاحترام المتبادل وضمان السيادة السورية، .
وفي ظل التركة الثقيلة من الدمار والخراب التي خلفها النظام المخلوع، فإن دمشق تحتاج لشريك دولي يساعد في إعادة الإعمار وإعادة بناء الاقتصاد السوري المتهالك جراء الفساد وسياسات النهب والسلب التي كان ينتهجها نظام الأسد، ، هذا بالاضافة الى الدعم السياسي التي يمكن أن تقدمه موسكو لدمشق في لعبة المصالح والتوازنات.
على هذا النحو، يمكن القول: إن العلاقة بين دمشق وموسكو هي شراكة جديدة تجمع بين ضرورات الاستقرار لسوريا وحاجة روسيا البراغماتية للحفاظ على نفوذها، والنجاح في بناء هذه الشراكة المتوازنة سيعتمد على قدرة الطرفين على تجاوز إرث الماضي، ووضع مصلحة الشعب السوري واستقرار سوريا في مقدمة الأولويات، وهو ما سينعكس إيجاباً على استقرار المنطقة بأكملها.