الملحق الثقافي-حسين صقر:
ثمة قول لابن القيم لايمكن تقييمه، يحكي فيه عن أشعة لا إله إلا الله إذ يفصح لنا فيه أن تلك الأشعة، تبدد من ضباب الذنوب وغيومها، أي فمن الناس من نور قلبه بهذه الكلمة، كنور الشمس على الكون، ومنهم من قالها بلسانه فقط، فبقيت كالسراج الضعيف.
ففي مادة سابقة تحدثنا عن الرغبة والعقل وما بينهما، لكون الرغبة تتعارض مع العقل، واليوم عن القلب واللسان وما بينهما، حيث قول الأخير وحده لايكفي، ولهذا يقولون: لا تقل لي كم مصحف في جيبك، بل قل لي كم آية في قلبك، لأن ما تحتويه الجيوب، قد نقرأه بالألسن ولا نعمل به.
يلفتني الكثير من الأقوال والدعوات عن أن ذكر آية واحدة أو استغفار أو ابتهال، قد يفتح الباب واسعاً للرزق والانتشال من الهم والكربات، إذ يكفي للشخص أن يرددها، حتى تزول غمامات الحزن واليأس، وتنفتح له أبواب واسعة للخير والبركة والرزق، وفي هذا ليس خلاف لأن تلك الآيات ليست مقصداً للنقاش أبداً، ولكن المقصد الذي يتوجب الوقوف عنده، هو طهارة القلب، والسؤال هل نقينا قلوبنا من الضغائن، والأحقاد على الآخرين، والحسد ومناصبة العداء حتى تفعل تلك الآيات فعلها، ويسمع الله تعالى دعواتنا.
فالإيمان الحقيقي تصديق بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح، وذلك أنه ليس خلاف بين أهل العلم والدين.
الخلاف فقط، حول ما إذا اقترن القول بالفعل، وطهارة القلب عكست معسول اللسان، حيث الأخير وحده لايكفي، فالقلب أبقى، لأنه مصدر العواطف والأحاسيس ومحرك للمشاعر، ويرتبط مع العقل، ذلك المحكمة الشرعية، ومجلس التأديب الأعلى.
فالعبادة بالقلب واللسان معاً، فلا يكفي أن ننطقها، دون أن نوفر لها بيئة نظيفة صافية مركزها القلب، ولا يمكن أن نبقيها في القلب حتى لا تتعفن وتأسن وتتراكم دون أن نفيد فيها أحد، ولكن على لسان نظيف أيضاً، والعباد الحقيقيون، هم من يبعدون أنفسهم عن الذكر، فيما لو أطلقت ألسنتهم كلمة نابية، وهم من يبعدون نفسهم عن قول الذكر، فيما لو كانت في قلوبهم بغض الضغينة، ويحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبهم أحد، وهناك قصة لأحد الدعاة، يوعد نفسه بالجنة، فيقول أبوه: لايصح ذلك، فهناك حساب وعقاب، قال: يا أبتِ: ألا يعرف الإنسان نفسه وقلبه وعقله، والله ما بت ليلة واحدة وفي قلبي سوء أو حقد على أحد، والتسامح لدي عنوان، فقال له والده: هنيئاً لك، لقد فزت.
ولهذا يقول ابن القيم أيضاً:» تظهَرُ الأنوارُ يومَ القيامةِ بأيمانِ النّاسِ، وبين أيديهم، بحَسَبِ ما في قُلوبِهم من نُورِ، عِلمًا وعَمَلًا، ومَعرِفةً وحالًا».
فحفظ اللسان من الأخلاق الحميدة والصفات الحسنة، والمقصود بحفظ اللسان ألا يتحدث الإنسان إلا بالخير، ويبتعد عن قبيح الكلام، وعن الغيبة والنميمة وغير ذلك، والإنسان مسؤول عن كلّ لفظ يخرج من فمه، و لكن النعمة الحقيقية أن يكون قلبه نقياً، وهنا النفع الأكبر والأثر الأفضل، فيكون عندها قد سخر نفسه لجوانب الخير ومناحيه، و ابتعد عن عظيم الخطر والضر، ووجد في رقابته على نفسه نفعاً.
فإن كل عمل من أعمال الإنسان الظاهرة على اللسان أو الجوارح لا بد أن يكون تعبيراً عما في القلب وتحقيقاً له، ومطهراً لإرادته، وإلا كان صاحبه منافقاً ذلك النّفاق الشرعي أو العرفي.
ومقولة: إن الإنسان بأصغريه، قلبه، ولسانه لم تقل جزافاً، فإذا امتلك أي منا قلباً حافظاً ولساناً لافظاً، فقد اختار لنفسه الخير.
إذاً قضية مكانة اللسان كبيرة وخطرها أكبر إذا ارتبطت بقلب حاقد، وفاز صاحبها إذا كان قلبه نيراً نقياً، فلا يستهين بذلك، لأن هناك الكثيرين، يقولون شيئاً ويضمرون عكسه، واللسان فيه من الكبائر مالا يحترس الكثير من الناس منه إذا اقترنت بقلب أسود،
و تسمى عند العلماء « آفات اللسان والقلب».
ونتيجة لما سبق فالصدق هو الذي يجمع بين القلب واللسان، فمن ناحية القلب النقاء والطهارة، ومن ناحية اللسان، التلفظ بكلمات طيبة تعطر فم القائل وأذن السامع، لا أن تنطلق من عتمة إلى فوضى على جناح النفاق.
كثيرون هم الأشخاص الذين يقعدون في مجالس الوعظ، ويتصدرون المجالس، ولايتركون مجالاً لغيرهم بالحديث، وعندما تراهم يخشعون ويسجدون، تدمع عيناك لشدة ورعهم وتتمنى أن تكون مكانهم، وعندما ترى بلاويهم، وما دفنوا في صدورهم من شياطين، وفي قلوبهم من حسد وأحقاد، تتمنى لو لم تلتق بهم، أو جالستهم، أو سمعت أحاديثهم، فإنهم يضمرون الشر لغيرهم، ولا يعجبهم أحد ويتكبرون ويعتدون بأنفسهم.
لهؤلاء صفّوا قلوبكم وفلتروها، واطلقوا العنان لألسنتكم، عندها نصدقكم..
العدد 1214 – 19 – 11 -2024