الثورة أون لاين -حمص – رفاه الدروبي:
بدأ الباحث مسوح حديثه في محاضرته حول (وهم القطيعة المعرفية) في فرع اتحاد الكتاب بحمص بتعريفها من حيث المصطلح بأنه كَثُرَ استخدامها في العصر الحديث وإذا قارنّاه بمصطلحات أخرى يردّدها باحثون وكتّاب ومثقّفون في كتاباتهم وأحاديثهم اليوميّة كالحداثة وما بعدها والمجتمع ما بعد الصناعي وما بعد البنيويّة فسوف نجد أنّ أكثرها وضوحاً في دلالته، وأهليّة للاستخدام من قِبَلِ المقتنعين بصحّته، لأنّه يُقدّم لمن يسمعُه معنى محدّداً، أي فكرة ما أو تيّاراً فكريّاً أو منهجاً بحثيّاً أو اكتشافاً علميّاً، أو غير ذلك.
وراح يتساءل هل قصدَ واضعو المصطلح ذاته ذلك حقّاً؟ أو إنّ مستخدميه خرجوا به عن دلالته المراد منها أوّل من أطلقه، أي المفكّر الفرنسيّ الشهير غاستون باشلار (1884 – 1962)؟ فقال: لابد من العودة ما قبل باشلار بنحو ثلاثمئة عام، لنتلمّس الممهّدات العلميّة والفلسفيّة للوصول إلى وضع المصطلح وجعلِه منهجاً في النظر إلى المعطيات الحديثة ولا سيّما النهضة الأوروبّية، فقد اعتمدت على اكتشافات وتحوّلات تُعَدّ مفصليّة في حقلي العلم والفلسفة، لعلّ أهمّها علميّاً نظريّة كوبرنيكوس، حيث أبطلتْ ما كان متعارفاً عليه من أنّ الأرض مركز الكواكب وصار يُطلق عليها بعد نظريته اسم المجموعة الشمسيّة، وأكّدت مركزيّة الشمس وتدور الكواكب الأخرى حولها.
كما بين بأن فنّ السرد الروائيّ تطوّر تطوّراً هائلاً في أواخر القرن العشرين وأوائل قرننا، فهل نقول إنّ الرواية العربيّة الجديدة مقطوعة الصلة برواية محمود تيمور ونجيب محفوظ ويوسف السباعي وشكيب الجابري وتوفيق عوّاد وحنّا مينة؟ متابعاً حديثه بالإجابة بأنه لايرى صواباً في رؤية الحلقة الأخيرة من حلقات تطوّر الظاهرة من دون النظر إلى جذورها وتدرّجها في سلّم الرقيّ فالجديد يتجاوز القديم، وعدها آليّة التقدّم، غير أنّه تجاوز إيجابيّ، في العلم والحياة الاجتماعيّة، وفي الحياة الثقافيّة والفكريّة. وقصد بالتجاوز الإيجابيّ أنّ الجديد يمتصّ ويتمثّل كلّ ما في القديم من إيجابيّات، وما حقّقه من منجزات، ويبقيها بصيغ جديدة، أي إنّ التجاوز تراكم وإضافة وليس إلغاء، وإذا اختلط الأمر على بعض الباحثين فعدّوا التجاوز قطعاً أو انقطاعاً، فلأنّهم رأوا سقف البناء ولم يروا الأعمدة الحاملة له، ضارباً مثالاً على ما قاله بدويّ الجبل في قصيدته الشهيرة التي مطلعها:
رمل سيناء قبرنا المحفورُ وعلى القبر مُنكَرٌ ونكير
ونقصد، من تلك القصيدة، البيت التالي:
وإذا رفّت الغصون اخضراراً
فالذي أبدع الغصونَ الجذورُ
وفي القصيدة ذاتها، أعطى بدويّ الجبل فكرة القطيعة بُعداً سياسيّاً، مستنكراً موقف أنظمة الحكم العربيّة التي لا تري شيئاً حسناً في الأنظمة التي سبقتها:
أَمِنَ العدلِ أيّها الشاتمُ التاريخ
(م) أن تلعن العصورَ العصورُ؟
أمِنَ النبل أيّها الشاتمُ الآباء
(م) أن يشتم الكبيرَ الصغيرُ؟
عربيّاً:
لافتاً بأن ربما كان المفكّر محمد عابد الجابري أهمّ من استخدم مصطلح القطيعة المعرفيّة في دراساته المتعلّقة بالفكر والتاريخ العربيّين، ففي كتابه الشهير (نحن والتراث) يدعو إلى “قطيعةٍ إبيستمولوجيّة مع بنية العقل العربيّ في عصر الانحطاط وقد يوحي بالدعوة للعودة إلى ما قبله.
متسائلا الباحث مسوح من أين جاءت بنية العقل العربيّ وكيف؟ وهل عصر الانحطاط جاء من فراغ؟ أليس في تراثنا قبل العصر ذاته ما يخالف العقل؟ كما أنّ الدعوة إلى القطيعة المعرفيّة مع بنية العقل العربيّ في عصر الانحطاط تنطوي على خطأ منهجيّ، فهي تتعامل مع ذلك العصر ونتاجاته تعاملاً واحداً، على أنها شيء واحد يتّسم بالسمات ذاتها، علماً بأنّ الكثير من المؤلّفات العربيّة الثمينة في الفلسفة والتاريخ والجغرافية والطبّ وُضِعت في بعض مراحل العصر نفسه مبيناً بأنه على مستوى نظريّة الأدب والنقد الأدبيّ، أخذ مستلهمو المنهج البنيويّ يتداولون مصطلح القطيعة بوصفه مصطلحاً بنيويّاً واختلفت طرق تعامل البنيويين العرب معه فحاول معظمُهم الالتزام به، فتناوَلَ النصّ الأدبيّ بوصفه بنية لغويّة مغلقة، منقطعة عن التأثّر بما هو خارجها وتحدّث بإيجاز عن أربعة أوهام فكريّة وسلوكيّة يولّدها وهم القطيعة المعرفيّة،وهي: وهم الانقطاع الاجتماعيّ،ووهم الانغلاق،ووهم اليقينيّة،ووهم التفوّق أو التميّز.
خاتما محاضرته بأن مصطلح القطيعة المعرفيّة إذا كان قد ظهر في الغرب نتيجة لتقدّم العلم والفلسفة، واعتماداً على تفسير معيّن للتقدّم، فإنّه وفد إلينا، ووقع عندنا، في بيئة لم تتأسّس فيها ركائز واقعيّة، اقتصاديّة واجتماعيّة وسياسيّة وفكريّة وثقافيّة ديمقراطيّة، ولم يدرج أبناؤها على قبول التنوّع والاختلاف والجرأة في الإقرار بالخطأ والتراجع عنه