تلك البيوت الحجرية الجميلة التي تقبع هادئة في حضن جبل، أو وادٍ في الريف، وغادرها أهلوها ليهاجروا بعيداً عنها ربما نسوها رغم لآلئها، إلا أن الأماكن لا تنسى سكانها عندما تمنحهم الإحساس بالألفة، والطمأنينة إذا ما عادوا إليها.
تظل المدن والكبرى منها على الأخص بأنوارها، وخدماتها، ومواطن الجمال فيها عنصر جذب لكل من يقطن حولها، أو بعيداً عنها.. والهجرة من الريف الى المدينة مبررة في معظم الأحوال، فهي للبحث عن فرص للعمل، أو لمتابعة الدراسة، أو رغبة بالاندماج بمجتمع أكبر وأوسع، أو برغبة الاكتشاف، كل هذا وغيره مما يساعد ويحفز على الهجرة إلى المدن.
وهذا النمط من الهجرات الداخلية يقع في كل المجتمعات، وعلى مدى الدهور، والعقود، والسنوات قريبة أكانت أم بعيدة في تاريخها، إلا أن مواسمها قد تزدهر في فترات دون غيرها مترافقة بدوافع التطور التنموي الاقتصادي، والاجتماعي الذي تفوز به المدن على حساب الأرياف.. ولو أن من هذه الهجرات ما قد يؤدي إلى تغيير ديموغرافي، وتمدنٍ شكلي.
وها هم يقولون الآن إن سكان المدن الأوروبية الكبرى باتوا يقصدون الأرياف من جديد وذلك إما بهدف العودة الى الأصول، والجذور النقية من كل أشكال التلوث، في هجرة معاكسة يكون فيها الاستشفاء، أو حتى بهدف سياحة داخلية بعد أن حجبت (كورونا) عنهم إمكانية السياحة الدولية.
وعندما تأتي الهجرة من المدن إلى الأرياف سواء لمن يقصد العودة الى الموطن الأول، أم لمن ينشد الابتعاد عن صخب الحياة المدنية فإن ذلك يحدث في مواقيت تتناسب مع أحوال أصحابها.. لكن رياح المفاجآت التي أتت على مصالح الناس بسبب وباء غير متوقع قد تدفع كثيرين لإعادة النظر في فكرة هجرة معاكسة تُهجر فيها المدن المكتظة بسكانها، والتي ينتشر الوباء في أجوائها لمصلحة الأرياف بما يخفف من الضغط على المدينة وبحيث لا يعود المرء حبيس جدارن بيوت أغلبها كالعلب من جهة، وعلاج من جهة أخرى من الأزمات النفسية التي تعرض لها الكبار والصغار على السواء كانعكاس سلبي لإجراءات الوقاية المفروضة والتي طال مكوثها، وهي ما تزال مستمرة لفترة ربما غير معلومة تماماً.
ولما كانت الهجرات على اختلافها ترتبط بنمو المدن فإنها في أي اتجاه كانت فسوف تعزز من هذا النمو، وهي تخلق جواً من التنافس فيما بين المهاجرين أنفسهم، وبين السكان الأصليين للمكان.
قد لا يكون الانتقال من مكان لآخر محقِّقاً لكل الآمال أو لجزء منها، وما رسمه الخيال من مكاسب، وامتيازات بل قد يكون أحياناً مخيباً لها، صادماً ومخيفاً، أما الانسحاب من التجربة والعودة الى نقطة البدء فهي ليست أيضاً بالسهولة المتوقعة مادامت النقلة الفارقة قد حدثت رغم ما فيها من إخفاقات، وصعوبات.. وعندئذ يقع المهاجر بالتالي في المنطقة الوسط بين عاملين اثنين أحدهما هو (الطرد)، والآخر هو (الجذب) حسبما يقول علماء الاجتماع.. والطرد الآن هو بسبب الأزمة الصحية الطارئة وتوابعها الزلزالية، أما الجذب فهو الى الأماكن الأولى لمن يعرف أسرارها، ومواطن الرزق فيها.
ويحضرني هنا عنوان رواية (طائر النار)، للأديبة (قمر كيلاني)، وهي تتعرض الى موضوع الهجرة من الريف الى المدينة وبالعكس، وتلك الأزمة التي واجهت بطلة الرواية لتعود أدراجها بعد أن تحطمت أجنحة طائر النار في مغامرة غير محسوبة النهايات.
وبين ريف وحضر تتنقل الخطا بين حدين من جذب وطرد.. ويبقى الأهم هو المسار الصحيح للخطوات.. وألا يخطف بريق المدن سحر الريف في رحلة هجرة.. أو أن يخطف الريف ألق المدينة في رحلة هجرة أخرى معاكسة.
(إضاءات) ـ لينـــــا كيــــــلاني