يحبُّ الكاتبُ والمترجمُ أن يرى اسمَهُ على كتابه، وكثيرونَ يفاخرونَ بذلك، وبعضهم يرى أن ثروته الحقيقيّة إنّما تتمثّلُ بما ألّفه من كتبٍ؛ أو ترجمه من أعمال، لكننا أمام كل ذلك نلاحظُ ظاهرة غريبة، ربّما قليلة الحدوث، تتجلّى في إخفاء المؤلفِ أو المترجم اسمَه، وحجبه عن القراء، ولذلك أسبابٌ عديدة؛ منها مثلاً الخوف من أشكال الرقابةِ المختلفة السياسيّة والاجتماعيّة والدينيّة، فقد تودي كتبٌ بمؤلفيها… أو مترجميها، ولا سيّما في بلادٍ مُتأخّرةٍ عن ركبِ الحضارة، لكن لماذا يحجبُ مؤلفٌ يضعُ كتاباً مهمّاً جداً لبلدهِ وناسِهِ اسمَه، ويُتَداولُ الكتابُ أو المخطوط بين الناس ويثنونَ على صَاحبِهِ، ومع ذلك يُفَضِّلُ أن يظلَّ مجهولاً…
ثمّة حالات كَهذهِ، لكنّها عموماً قليلة جداً؛ منها كتابٌ أصدرناه منذ أيام في الهيئة العامة السوريّة للكتاب عنوانُهُ “عدوانُ فرنسا على سورية / أيار – حزيران 1945م”، الكتابُ مكتوبٌ بقلمِ: الجندي المجهول عام 1945، وقد حقَّقَهُ وعلق عليهِ د. إحسان الهندي الذي كانَ قد أفادَ منه ومن وثائقِهِ الجمّة في بحثٍ كتبَهُ من قبل حولَ نضال الشعب العربي السوري في سبيل الجلاء مطلع الستينيات من القرن الماضي، وقد وجدت في ذلك الوقت ثلاث نسخ من الكتاب واحدة في مكتبةِ المتحف الحربي، والثانية في مكتبة الوثائق التاريخيّة، والثالثة في مكتبة الأسد الوطنيّة، وهي متشابهة في الفصول التي احتوتها، وعددها تسعة، الثامن منها مخصصٌ للمستنداتِ والتاسع لمجموعة من الرسوم، ولعلّ أغناها وأكملها – كما يقول المُحقِّق – هو نص نسخة مكتبة المتحف الحربي. فقد ضمّت هذهِ النسخة قسماً ثانياً بعنوان “سورية 1945″، أما نسخة مكتبة الأسد فلا تحوي رسوماً، في حين ضمّت نسخة مكتبة الوثائق التاريخيّة صوراً مهمّة وواضحة جداً.
سَجّلَ كتابُ الجندي المجهول الوقائع التي حدثت في بلادنا من أعمال استفزازٍ وإرهابٍ وعدوانٍ قامت بها القوات الفرنسيّة ضد السوريين بدءاً من مبالغة الفرنسيين وإسرافهم في الاحتفال بعيد النصر في 8 أيار 1945 وما تلاه، مروراً باستقدام سفينتي النجدة إلى بيروت في 4 و 16 أيار 1945، وصولاً إلى الاعتداءِ على الأشخاص والأملاك وآخرها العدوان الإرهابي على رجال الأمن السوري في مبني البرلمان في 29 أيار 1945؛ إذاً دوّن الجنديُ المجهول هذهِ الوقائع التي جرت خلال فترةٍ لا تتجاوز خمسة أسابيع وهي فترة حافلة على قِصرها بحوادث أدّت إلى تحوّل تاريخ بلدنا كُلّه من طورٍ إلى طور، ومع ذلك يقول الجنديُّ المجهول في مقدمةِ كتابه: “ولا نَدّعي أننا ألممنا في هذا الكتاب بجميع الوقائع التي وقعت في تلكَ الفترة، ولا أننا أحصينا جميع حوادث الاعتداء والنهب والتنكيل والتمثيل، فهي كثيرة يكادُ يُخطِئُها العد، ويقتضي إحصاؤها وبسطها مُجلّدات لا مُجلّداً صغيراً كهذا.. لذلك ينبغي أن لا يُعدّ ما ذكرناه منها سوى أمثلة…”.
ومع ذلك فقد سَردَ المؤلّفُ المفاوضات والوقائع سرداً رزيناً هادئاً مؤيّداً بالوثائق والمستندات، مؤكّداً أنّه إنما فعل ذلك لأنّهُ “يريدُ أن يبسط أمام العالم كلّه قضيّة أساسها الحق والصدق، وهذا هو سلاحنا الوحيد الذي نواجهُ به خصومَ استقلالنا وسيادتنا ونقاتلهم به ونحن واثقونَ بالنصر”، والجدير ذكره في هذا السياق أن رئاسة الجمهوريّة السوريّة يومذاك أصدرت المرسوم رقم 749 تاريخ 12/6/1945 الذي يقضي بتشكيل لجنة لجمع الوثائق والأدلّة عن الاعتداء، والمرسوم رقم 750 الذي شُكِّلت بمقتضاه لجنة للتحقيقِ في الأموال المنقولة التي نُهبت من بلادنا.
فمن هو إذاً هذا المؤلف الرائع الذي ضَنّ بتقديمِ اسمِهِ للقراء، ليتنا اليوم نكتشف ذلك، فهو يستحق كل تقديرٍ وتكريم، ونرجو أن يكونَ ما زالَ حيّاً ويقرأَ كلامنا هذا، ويرى كتابَهُ وقد صدرَ من جديد عن وزارة الثقافة.
إضاءات – د. ثائر زين الدين