الثورة اون لاين – هفاف ميهوب:
عندما تتوالى الحروب التي تلتهم بنيرانها وشظايا دمارها، كل ما فينا ولدينا من أمنيات الحياة، لابدّ أن تتحول ذاكرتنا إلى سجلٍ تتراكم تحت أنقاضه أوجع وأبشع الحكايات، وعندما نحاول إخماد ماتركته هذه الحروب فينا من حرائق، لابد أن نسعى للخلاص من اختناقنا بدخانها الذي يتحول لدى المبدع إلى حبرٍ يوثق ما ينقله بدماءِ الحقائق.
إنه ما فعلته الأديبة “غلاديس مطر” وهي تنظر إلى الماضي وما فيه من صورِ الحروب التي شحنت مفرداتها، بكلِّ ما جعلها تتّقد بنيران تلك الحروب التي جعلت الحياة أشبه بمفخَّخة تهدِّد الإنسان والوجود، بانفجارٍ لا يترك بعده أثر.
إنه مافعلته وهي ترى مجتمعاتنا تختنق بـ “غبار مئة حرب”، وما وثّقته ضمن مجموعة قصصية أسكنت فيها الكثير من الأحداث الوطنية والسياسية والإنسانية. مجموعة احتاجت لإنجازها في هذا الزمن الذي نعيش فيه الإحباط والكآبة، إلى ما يعينها على إنجازه وأسمته “منشطات الكتابة”.
بحثت عن هذه المنشطات في المنزل.. في المدينة.. في الوجوه.. في كلمة كانت تخرج من فم أحدهم.. في مشهد من التلفزيون.. في نصٍّ أو كتاب، أو ضحكة يطلقها أحد الجيران فتسمعها من وراء الباب..
بحثت في كل ذلك وسواه، لكنها شعرت بأن هكذا منشطات باتت “منتهية الصلاحية في عالمنا العربي” حيث “أصبحنا متآلفين مع كل شيء” بعد أن “بهت الإحساس بالدهشة الأولى، الفرحة الأولى، القبلة الأولى، الاكتشاف الأول”.. شعرت بذلك، لكنها لم تعجز عن إيجاد ما يشجعها على الانطلاق بادئة بـ “مشاهد الصلب” التي سعت ما أمكنها، لنزع ما فيها من مسامير الحقد التي دُقّت في جسدِ الحياة والوطن والإنسان، الذي لم يسلم من النزيف حتى في “مشاهد الحب”.
هكذا تبدأ.. تقدم حكايا تارة نشعر مفرداتها تهذي حنقاً وألماً وغضباً، وتارة نشعرها تتعقّل دون أن تستكين حتى وإن حاولت أن تهدأ.. تحاول ذلك، عبر مواجهة البشاعات التي تنقلها بـ “مشاهد الحب” حيث أسرار المدينة التي تجد بأن لا سبيل لقيامتها إلا بخيانتها. خيانة التقاليد الكئيبة لصالح حياةٍ، لا تقوقع أو تأنيب أو لوم أو حقد فيها، ولا انهيار لثبات العقل والقلب والذات.
“ما قيمة هذا الكون إذا لم تتَّحد به حواسي؟ ما قيمته من دون روحي؟
من دون هذا المعبد الجواني الذي ينوءُ بمتناقضات الدنيا.. معبدنا المشترك أنا وأنت”؟
تخرجنا بهذه الكلمات من التيه الذي يحاصرنا، لتدخلنا في صباحاتٍ تريدها أكثر أناقة لتجعلنا، أكثر انسجاماً في علاقاتنا ومع ذواتنا.. أكثر وعياً وفكراً وعشقاً، وأقل يأساً وضياعاً وحزناً. الحزن على العمر الذي يُغدَر به، فَيغدُرُ بشباب وحياة أصحابه.
نعم، هو العمر الذي يغدر بأمرِ أصحاب النهي عن المنكر.. الضالون عن الحب والنور، والآمرون باستعبادِ وتكفير وقتل المضيئين بالأرواح والعقول.. من يسرقون الطفولة وبراءتها، دون أن يتجرأ أحد على سؤالهم “من يعيد لعائشة لعبتها؟”.
“وهكذا كان طريق جهنم، يُرصف بالنوايا الحسنة، بينما انطلقت رياح مصيبة الطفلة تعبث بكلّ شيء.. تركوا عائشة مع قلبها الخافق، وأطرافها المثلجة، تنتحب في صمتها القدسي وقد تاهت في ثوبها الأبيض “المنفوخ” وطرحتها “المكشكشة”.
لم يكن ذلك فقط ماتناولته “مطر” في “غبار مئة حرب” وما نجم عن تلك الحروب من غبارٍ كان أكثفها في وطنها. ذلك أنها لم تدع مجالاً من مجالات الحياة إلا وألقت عليها نظرة الخبير-القدير، في إزالة ركام الغبار ومانجم عنه من مشاهدٍ منها الموجعة ومنها المفرحة أو المتوقعة.
لم يكن ذلك فقط ماتناولته، فقد التقطت صوراً لذاتها بعد أن نبشت في اعترافاتها.. نبشت في ذاكرةٍ مسكونة بالفرح والأمل، فوقعت أناملها على “مشاهد الهزل”.
وكأنها “ملكة الدنيا”.. تروي حكايتها بل مذكراتها، وتقبض على العالم بلوحاتها وكلماتها:
“ظلّ العالم يمرُّ هيولياً مبهماً، عديم الوضوح بالنسبة إليّ، إلى أن استيقظت على جمال الورقة البيضاء والألوان”..
هي قصصها القصيرة.. قصص كل إنسان قرأته وتوقفت حتى لدى أوجاعه الصغيرة.. قصة وطن هو حرفها وعشقها وبؤبؤ عينها.. قصة حياة دأبت على إزاحة ما يعلوها من “غبار مئة حرب” بصخبٍ تارة وأخرى بصمت.
