الثورة أون لاين – ترجمة ميساء وسوف :
تقدّم المحادثات الجارية بين مصر وإثيوبيا والسودان التي تحاول إيجاد حل دبلوماسي وسلمي للنزاع حول حوض النيل الأزرق فرصة فريدة للتعاون عبر الحدود ،ولها أهمية كبيرة لمنطقة تتعامل مع العديد من القضايا المعقدة.
لهذا يجب على المجتمع الدولي زيادة دعمه والحث على إجراء مثل هذه المحادثات بدبلوماسية حاسمة لضمان التوصل إلى اتفاق.
من الواضح أن استمرار المحادثات يدل على حسن النية، فهناك حاجة ملحّة لتعزيز المفاوضات من خلال جميع القنوات الدبلوماسية المتاحة.
ويبدو أنّ الاتحاد الأفريقي في وضع جيد لمواصلة الوساطة، كما يبدو أنّ هناك حاجة أيضاً إلى مشاركة دائمة رفيعة المستوى من الشركاء الإقليميين، فضلاً عن الدعم متعدد الأطراف من حيث الموارد المالية والتقنية.
يعتبر سد النهضة الإثيوبي الجديد محور النزاع هذه الفترة، ومن المقرر أن يصبح أكبر سد لتوليد الطاقة الكهرومائية في إفريقيا عند اكتماله، إلّا أنّ مصر والسودان، البلدين اللذين يقعان في اتجاه مجرى النهر، يخشيان من أن إثيوبيا بصفتها من يبني السّد، سيكون بإمكانها السيطرة بشكل فعّال على تدفق نهر النيل، وهو تحول في الأحداث يغير بشكل جذري الطريقة التي يتم بها تقاسم الموارد المائية في المنطقة.
فمصر، والتي توصف بأنها “هدية النيل”، تعتمد بشكل كامل تقريباً على النيل لتلبية احتياجاتها المائية المختلفة، وهي المستفيد الرئيسي من اتفاقيات 1929 و1959 بشأن استخدام مياه النهر المشتركة. إذ تمنح اتفاقية عام 1959 مصر حصة قدرها 55.5 مليار متر مكعب سنوياً من أصل 74 ملياراً متاحاً، إضافةً إلى حق النقض على المشروعات التي يتم تطويرها في المنبع، بينما تخصص حصة السودان بحوالي 18.5 مليار متر مكعب.
ومن الواضح أنّ أياً من هذه الاتفاقيات القديمة لم تعترف بمصالح دول المنبع الأخرى على نهر النيل، والتي أكّد بعضها حقّها في طموحاتها التنموية على النهر على مدار العقدين الماضيين فدفعت باتجاه اتفاقية جديدة لتكريس الحقوق العادلة والاستخدام المتناسق للمياه بين الجميع.
إحدى هذه الدول هي إثيوبيا حيث ينبع نهر النيل الأزرق. ويعد سد النهضة جزءاً أساسباً من طموحات إثيوبيا لتحقيق الازدهار الاقتصادي. فالسد الذي يتم تمويله ذاتياً إلى حد كبير، ستبلغ طاقته 74 مليار متر مكعب عند اكتماله، وهو ما يكفي لتوفير طاقة رخيصة وفيرة لتسهيل التطورات الوطنية والإقليمية. فحالياً لا يحصل أكثر من نصف سكان إثيوبيا، والبالغ عددهم 110 ملايين نسمة على الكهرباء، ويتزايد الطلب سنوياً بنسبة 30 في المائة.
إن التّأثير غير الواضح لسد النهضة، وانخفاض كميات المياه، على الأمن الغذائي والزراعة يعقّد المفاوضات. والواضح أن عدد سكان مصر وإثيوبيا والسودان سيزداد بشكل كبير في العقود المقبلة، ويتعامل كل منهم بالفعل مع تحديات كبيرة تتعلق بانعدام الأمن الغذائي والتغذية، والتي تفاقمت جزئياً في مصر والسودان بسبب الهياكل الزراعية التي تعود إلى الحقبة الاستعمارية والتي تم إنشاؤها لاستغلال المحاصيل.
إنّ أي تغيير في كميات المياه سيكون له تأثير كبير على 67٪ من حيازات المزارع المصرية التي تعتبر “صغيرة”، ومعظمها يقع على ضفاف النيل. وقد تؤدي التغيرات في أحجام المياه إلى زيادة التصحر وفقدان سبل العيش، مما قد يتسبب في اضطرابات معيشية إذا لم يتم التعامل معها بشكل صحيح.
كما يثير التأثير البيئي لسد النهضة على نظام نهر النيل المعقد المخاوف بشأن النظام البيئي للنهر، والبيئة المحيطة، ومجرى النهر. وعلى الرغم من المحادثات التي جرت في عام 2015 والتي أدت إلى اتفاق بشأن إعلان بعض النقاط الهامة إلّا أنّه لم يتم تنفيذ دراسات فنية شاملة.
وعلى الرغم من قلة الأدلّة على انخفاض مستويات المياه الإجمالية في حوض النيل في السنوات الأخيرة، إلا أن تغير المناخ يتسبب في مزيد من التباين في تدفق النيل ما يزيد من مخاطر الفيضانات وموجات الجفاف الممتدة. كما تشعر دول المصب بالقلق إزاء الآثار الناجمة عن أي مخالفات أو أضرار أو فشل في السّد، بما في ذلك نشاط الزلازل المحتمل حدوثها في أي وقت.
بالطبع، يمكن لسد النهضة أن يوفّر بعض القيمة المضافة لدول المصب. إذ يمكن أن يساعد في إدارة الفيضانات في السودان، وتقليل فقد المياه بشكل كبير بسبب التبخر، كما في حالة بحيرة ناصر – وتقليل تأثير الرواسب على مصب السدود .
ففي السودان، حيث يُزرع حالياً أقل من ربع المساحة المقدرة بـ 70 مليوناً هكتاراً من الأراضي الصالحة للزراعة، فإن أي انخفاض في الفيضانات الموسمية من شأنه أن يعزز الإنتاج الزراعي ويساعد على الانتعاش الاقتصادي. كما سيوفر السّد لإثيوبيا فرصاً كبيرة لتجارة الطاقة المتجددة الرخيصة للسودان والدول المجاورة ما يكسبها مليار دولار سنوياّ من العائدات. ويمكن أن يكون تبني نهج إدارة أكثر “تكاملاً في الحوض” نقطة انطلاق لتعزيز التعاون الإقليمي بين الدول الثلاث لكنّ التوترات الجيوسياسية بين الدول الثلاث تصاعدت منذ أن كشفت صور الأقمار الصناعية عن قيام إثيوبيا بملء كميات كبيرة للسد قبل التوصل إلى أي اتفاق. وقد قالت إثيوبيا منذ فترة طويلة إنها ستبدأ في ملء السد خلال موسم الأمطار، لكنها تصر على أن الملء حدث بشكل طبيعي خلال شهري حزيران وتموز بسبب هطول الأمطار والجريان السطحي وتم امتلاؤه الى السعة القصوى البالغة 4.9 مليار متر مكعب دون الحاجة إلى إغلاق بوابات السد. وكررت مصر والسودان دعواتهما للتوصل إلى اتفاق قانوني ملزم بشأن قواعد ملء السد وإدارة المنازعات.
كما طلبت مصر مناقشة موضوع سد النهضة في مجلس الأمن في منظمة الأمم المتحدة، لكن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد ،الحائز على جائزة نوبل للسلام، والذي يواجه اضطرابات داخلية كبيرة ، أوضح أن المواجهة المكلفة ليست في مصلحة أحد. وفي الوقت نفسه، فإن الحكومة الانتقالية في السودان، التي يديرها مدنيون وعسكريون بشكل مشترك ،حريصة على تأكيد مصالحها الخاصة على نهر النيل ولكنها لعبت أيضاً دوراً تصالحياً مع جيرانها. كما تضيف المشاركة المتزايدة لدول الخليج في القرن الأفريقي وآثار النزاعات في ليبيا واليمن المزيد من التعقيد على الصورة الإقليمية بشكل عام.
بالتأكيد لن يستفيد أي من الأطراف الرئيسية المشتركة في النهر من استجابة أمنية صارمة للسد. فبالنسبة لمصر، فإن مثل هذه الخطوة ستنسف مشاركتها مجدداً في إفريقيا، ومن المرجح أن تؤدي إلى استبعادها من الاتحاد الأفريقي. أما بالنسبة لإثيوبيا، فسيكون الصراع العلني بمثابة نكسة كبيرة لطموحاتها في التنمية والتكامل الإقليمي. كما لا يمكن للمرحلة الانتقالية الناشئة في السودان أن تكون جزءاً من صراع إقليمي آخر.
ولكن ولحسن الحظ، فقد تم إحراز تقدم كبير خلف الكواليس، إذ تشير بعض التقارير إلى أنه تم التوصل إلى اتفاق مؤقت بشأن حجم الملء المطلوب والإطار الزمني للتعبئة. وإذا كان الأمر كذلك، فإن معظم الخلاف يدور الآن حول ما يجب القيام به في حالة حدوث جفاف، وأحكام تبادل المعلومات، وكيفية ترجمة كل هذا إلى اتفاقية ملزمة لكافة أطراف النزاع.
ويمكن أن يكون النهج المكوّن من مرحلتين، مرحلة أولى هي صفقة قصيرة الأجل بشأن ملء وتشغيل سد النهضة، تليها مرحلة ثانية تشمل مناقشات حول التطورات المستقبلية والتخصيص، هو أفضل طريقة للتوصل إلى تسوية دائمة واستبدال اتفاقيات تقاسم المياه الحالية التي عفا عليها الزمن.
يبدو أنّ التوصل إلى اتفاق ناجح بين الدول الثلاث ليس بالأمر السهل لأنه يتطلب قيادة شجاعة وحسن نية سياسي بالإضافة إلى استعداد جميع الأطراف لتقديم تنازلات لضمان سدّ الثغرات بين مواقف الدول الثلاث بشكل كبير.
المطلوب إذاً، بذل الجهود لإجراء محادثات وتقديم الحلول التي يمكن أن تخفف الخلافات بين الأطراف، وبناء الثقة، وتأمين النجاح الدبلوماسي الحيوي الضروري جداً لتحقيق استقرار وتقدم أوسع في المنطقة
المصدر Chatham House