الملحق الثقافي:د. ثائر زين الدين :
عام 1937 طُلبَ إلى الفنان الإسباني الشهير بابلو بيكاسو رسمَ عملٍ فنّيٍّ ضخمٍ، يتصدَّرُ الجناح الإسباني في معرض باريس الدولي، وقد كان حائراً بشأن ما سيرسمه حتى قامت طائراتُ أدولف هتلر في 26 أبريل/ نيسان بقصفِ مدينةٍ إسبانيّةٍ صغيرة وادعة، خلت من الرجال الذين ذهبوا إلى القتال، ولم يبقَ فيها إلا النساءَ والشيوخَ والأطفال، وبعض المدافعين عن المدينة، دمرتِ الطائراتُ الحربيّة المدينة تماماً، وسوَّتها بالأرض، لقد كان هتلر يومها يختبرُ القوَّةَ التدميريّة لأسلحته. بدأ بيكاسو يرسُمُ من وحي تدمير مدينة «جيرنيكا» اسكتشات ودراسات مختلفة، وخلال مراحل متعدِّدة أنجزَ لوحته المعروفة التي سمّاها باسم المدينة، باستخدام الأقلام السوداءِ والحبر والفحم، فتسيَّدَ اللونُ الأسودُ بدرجاتهِ ورمادياته، وعبَّر العملُ – فيما عبَّرَ- عن المرارة التي تعانيها الروح البشريّة، ووصفَ جون بيرغر عن ذلك بقوله «إنَّها تَصَوّرُ بيكاسو للعذاب في لوحة»، وستعرفُ البشريّةُ ما يشبهُ تدمير الجيرنيكا بعد ذلك وربمّا بفظاعة أشد، حين مسحت الولايات المتحدة مدينتي هيروشيما وناغازاكي عن سطح الأرض على مشارفِ نهايةِ الحرب العالميَّةِ الثانية، أربعينيات القرن الماضي، وستقتدي إسرائيلُ بها فتدمِّر مدينة القنيطرة السوريّة سبعينيات القرن نفسه، ولن ينتهِ الأمر بتدمير الطيران الأمريكي مدينةَ الرَّقة السوريّة عام 2017.
كان الشاعرُ الفرنسي بول إيلوار، صديق بيكاسو، أوَّلَ من كتبَ نَصّاً شعريّاً بتأثير هذهِ اللوحة، في الذكرى الأولى لتدمير المدينة عام 1938، وقد حمل النصُّ عنوان «انتصار جيرنيكا»:
«-1-
عالم أكواخ جميل
منجم وحقول.
-2-
وجوه طيبة في النار. وجوه طيبة في البرد
في رفض الليل والإهانات والضربات.
-3-
وجوه طيبة في كل شيء
ها هو الفراغ يثبتكَ؛
سيصير موتك مثالاً.
-4-
الموتُ قلبٌ مقلوب.
-5-
لقد جعلوكِ تدفعين ثمن الخبز
ثمن السماء والأرض والماء والنجوم
ثمن تعاسة حياتك.
-6-
لقد كانوا يقولون إنهم يحلمون بالذكاء الجيد
يقوِّمون الأقوياء ويحكمون على المجانين.
يقدّمون الصدقة ويقسمون الفلس نصفين
يحيّون الجثث
ويثقلون أنفسهم بالمجاملات.
-7-
مواظبون بالغون ليسوا من عالمنا.
-8-
للنساء وللأطفال نفس الكنز
أوراق خضراء للربيع وحليبٌ صافٍ
وديمومة
في عيونهم الصافية.
-9-
للنساء وللأطفال نفس الكنز
في عيونهم
يدافع عنه الرجال ما استطاعوا
-10-
للنساء وللأطفال نفس الأزهار الحمراء
في العيون
كل منهم يظهر دمه
-11-
الخوف والشجاعة في الحياة وفي الموت
الموت كم هو صعب وكم هو سهل.
-12-
أيها الرجالُ الذين من أجلهم أقيم هذا الكنز
أيها الرجالُ الذين من أجلهم هُدّم هذا الكنز
-13-
أيها الرجال الحقيقيون الذين لهم يغذّي
اليأسُ النارَ التي تفترسُ الأمل؛
لنفتحْ معاً بُرعم الأمل الأخير.»
وكتبَ الشاعر الفرنسي جاك بريفير قصيدتين مشهورتين له: «نزهةُ بيكاسو» و»مصباحُ بيكاسو السحري»، بتأثير هذهِ اللوحة، وقد بنى هاتين القصيدتين كما تبنى اللوحة السريالية أو التعبيريّة.
سنعثَرُ على تجارب لشعراء عرب أثّرت بهم هذهِ اللوحة الخالدة فقدّموا نصوصاً موازيةً لها، وبين يديّ ثلاث قصائد أوّلها «جيرنيكا أو الساعة الخامسة» للشاعر المصري أحمد عبد المُعطي حجازي، وثانيها: «مُحاولة إعادة رسم الجيرنيكا» للشاعر العراقي حميد سعيد، وثالثها: «مصباحُ بيكاسو/ غورنيكا» للشاعر السوري ثائر زين الدين.
ولعلَّ الصفة المشتركة بين هذهِ القصائد أنّها لم تتقيّد بعناصر اللوحة أو بموضوعها نفسه، بقدر ما استلهمت روح اللوحة وعالمها المرعب وطاقاتها الحزينة، وصوتها الرافضِ للحرب وويلاتها.
التاريخ: الثلاثاء8-9-2020
رقم العدد :1012