الملحق الثقافي:حاتم حميد محسن :
شكّل كوفيد-19 عدواً ثقيلاً في المدن وفي كل العالم. إنه ليس مثل الفايروس الإلكتروني الذي يدمر الكومبيوترات محدثاًَ الفوضى في شبكات التواصل الاجتماعي وفي الهياكل المالية وأنظمة الدفاع والاتصالات. إنه فايروس “تقليدي” نشأ كما يبدو في حيوانات وراح ينتشر بين الناس على نطاق واسع. هذا الفايروس التقليدي خلق اضطراباً في كل العالم، مهدداً بالإطاحة بالعولمة ذاتها، النظام المنظّم للأسواق الحرة وحرية التجارة وحرية التدفقات المالية وحركة الناس، والذي كان مهيمناً على الكوكب منذ نهاية الحرب الباردة.
صراع عالمي
إن الإجراءات التي اتخذتها الحكومات والموارد التي عبأتها في محاولتها احتواء الفايروس وتقليل الإصابات، يمكن مقارنتها بالجهود التي جرت في عدة جبهات أثناء الحرب العالمية الثانية. إنه صراع عالمي مرة أخرى، لكنه هذه المرة ضد عدو غير مرئي و مميت. في الحرب، أول الضحايا هو الطريقة “العادية” في العيش والحريات التي تأسست عليها الصيغة الحالية للعولمة. من حسن الحظ أن هذه الحرب احتشدت فيها كل الإنسانية تقاتل في نفس الجانب ضد عدو مشترك. في هذه الحرب اعتُبرت العولمة كمساعد لهذا العدو وإن جزئياً. نشأ الفايروس في جزء من العالم ثم انتقل بسرعة من خلال السفر إلى كل زوايا الكوكب. العولمة تثبت أيضاً كونها عاملاً كابحاً لاستجابة الحكومة، لأن النظام المعولم لا يمكن الوثوق به في توفير التجهيزات الطبية والموارد لبلد معين بل، بدلاً من ذلك انتقلت هذه التجهيزات إلى أماكن ذات تكاليف منخفضة حيث تباع بأعلى الأسعار.
خطط الطوارئ الحكومية وقعت في فوضى، لأن خطوط التجهيز تعبر الحدود التي اُغلقت بسبب الاحتياطات والمحاذير الطبية. الاعتماد على مجهزي القطاع الخاص للتجهيزات والخدمات الطبية بما فيها اللوجستك، يتطلب جهداً إضافياً وتكاليف لإعادة تأسيس شبكات تجهيز البلد والذي لا يمكن أن يتم إلاّ عبر “تشاركية قطاع خاص وعام”، حتى لو أن الدولة تعبئ آليات استجابة للطوارئ أو استخدام قوات مسلحة.
إن الأضرار الجانبية والخطيرة التي نجمت عن الإجراءات المضادة لانتشار الفايروس، كانت تتمثل بالتقليص الشديد للفعالية الاقتصادية. الناس بقوا يعملون من البيوت متجنبين أو مُنعوا من الذهاب إلى المطاعم والمحلات والصيدليات. بعض الناس هم سلفاً خسروا وظائفهم في القطاعات غير الفعالة، بينما خطوط النقل الجوي تواجه الإفلاس بسبب خوف الناس من تفشي الفايروس ومنع السفر في النهاية. أما أسواق الأسهم والصرف العالمية، فقد كان رد فعلها خسائر كبيرة في الأسهم حفزت الإعلان عن محفزات واسعة من جانب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين ودول أخرى. هذه تضمنت طبع كميات كبيرة من النقود الجديدة وضخها في الاقتصاد، بالإضافة إلى خطط مباشرة لمدفوعات نقدية للمواطنين، كما حصل في الولايات المتحدة.
بشكل أو بآخر، بدت الدول المتطورة كأنها أوقفت العدو من التقدم إلى ما وراء حدود الآلاف في الوفيات. نحن في النهاية سنرى أي نموذج هو الأفضل في العمل: النموذج الأكثر تقييداً في القارة الأوروبية أو الأكثر استرخاءً كما في المملكة المتحدة. باستثناء أي تطور غير متوقع، فإن جميع هذه النماذج التي استرشدت بالخبراء العلميين ومهما تعددت أشكالها، يجب أن تحقق الهدف المرجو في محاصرة الفايروس. ماذا سيحدث، أو ربما يحدث سلفاً في الدول النامية؛ حيث الأنظمة الصحية وقدرات الدول هي الأضعف بكثير؟
روح التضامن
يكمن الأمل فقط بأن تعمل الدول المتطورة بروح التضامن والمصلحة الذاتية المتنورة، وأنها سوف تترك بعض التجهيزات والمعدات للدول النامية لتستعملها عند الحاجة. يأمل الناس أن الحرب ضد هذا العدو المشترك لن تنزلق إلى حرب أهلية إنسانية أخرى في القتال لأجل الموارد الطبية المحدودة، حول من يحصل أولاً على اللقاحات والعلاجات الممكنة. لحسن الحظ، الاستجابة حتى الآن كانت نوعاً ما منسقة (على الأقل بشأن الجزء الطبي) من خلال هيئة مختصة متعددة الأطراف وهي منظمة الصحة العالمية. هذه أحد عناصر العولمة التي أثبتت إيجابيتها والتي اعترف بها وإن على مضض حتى القادة الوطنيين. كانت هناك دروس متعلمة من حالات تجهيز الطوارئ الطبية السابقة مثل سارس وإيبولا، والتي تطبق الآن. إن المجموعة الطبية حول العالم من حسن الحظ تتحدث الآن نفس اللغة وهي لغة الشفاء.
بعض العناصر الأخرى للعولمة التي أثبتت فائدتها خلال هذه الأزمة، هي التواصل الاجتماعي والاتصالات بشكل عام. الإحساس بالجالية والذي يعد حاسماً في الأوقات الصعبة، يمكن التعبير عنه إيجابياً من مسافات آمنة من خلال الاتصالات التلفونية، مؤتمرات الفيديو، وتبادل الرسائل، وحلقات المزاح (مع أن العكس قد يحصل عند انتشار الأخبار الزائفة التي تضلل الكثيرين وتسبب لهم الألم). إن التأثير الإيجابي غير المقصود لهذه الحرب هو انخفاض انبعاثات الغاز من البيوت الزجاجية وقلة التلوث، بسبب إغلاق المصانع والهبوط الكلي في الفعالية الاقتصادية، غير أن هذا يُتوقع استمراره فقط لفترة قصيرة.
ربما تأخذ العملية عدة أشهر قبل انتهاء الحرب ضد الفايروس، لكن إجراءات العزل قد تستمر لسنوات. بعض الدروس الأساسية التي يتم تطبيقها قد تتطلب تغيرات شديدة وطويلة الأمد في نموذج العولمة الذي كان العالم يمارسه حتى الآن. هذه تتضمن التالي:
1- إعادة تنظيم خطط حالات الطوارئ لضمان استمرار خطوط التجهيز للمواد الطبية والأشياء المصيرية الأخرى، مع التأكيد على استعدادات الدفاع المدني والمرونة وضمان قدرة الجاليات على مقاومة الصدمات بالاعتماد على مصادر قريبة. هذه الصدمات يمكن أن تنشأ عن كوفيد-19 أو من فايروسات أخرى أو بسبب حدث طبيعي نتيجة تغير المناخ أو كوارث من صنع الإنسان.
2- تكامل ناعم لخدمات القطاع الخاص مع العام في حالات الطوارئ لأجل توفير مستمر للتجهيزات الحاسمة المذكورة أعلاه وكذلك بالنسبة إلى توفير الغذاء والمواد المتعلقة بالبقاء بالإضافة إلى الاتصالات واللوجستك لتكون كلها في خدمة الجالية بدلاً من أن تكون لتعظيم الربح.
3- إعادة تحديد الأولويات للفعالية الاقتصادية والاستثمار العام نحو الفعاليات الدائمة الأقل موارد والأقل تلوثاً، مع التأكيد على أمن الانسان ورفاهيته في تغذية مضمونة ونظام صحي موثوق ونظام مساعدات اجتماعية ومستويات محترمة للعيش لجميع الناس.
4- إعادة تجديد الاحترام والاستثمار في التعددية ونظام وكالات الأمم المتحدة التي تربط الجماعات المتخصصة في كل أنحاء العالم مثل الأطباء ووزراء الصحة من خلال منظمة الصحة العالمية. قد لا يكون السجل إيجابياً جداً بالنسبة إلى المؤسسات السياسية مثل الأمم المتحدة أو الاتحاد الأوروبي، لذا فإن إعادة التفكير بكيفية عملها ونوع القيادة المتوقع توفيرها للطوارئ هي قيد العمل. كذلك من غير الواضح ما هي القيمة المضافة لمجموعة السبع ومجموعة العشرين والمنظمات الأخرى المحدودة العضوية سواء القيمة المتحققة أو ما يجب تحقيقه.
سنحتاج للمزيد من الوقت لاستيعاب الدروس من كوفيد-19 والذي من المؤمل أن يصل حالاً إلى نهاية سعيدة. العديد من الدروس لاتزال في طور التعلّم. سيبقى البحث مستمراً عن قيادة أخلاقية ومؤهلة وعن رؤية يمكنها أن تحفز وتباشر تغيراً تحولياً لأجل الخير العام.
……
Georgios Kostakos, Globalisation is no longer business as usual.coronavirus has changed how the world works.
التاريخ: الثلاثاء15-9-2020
رقم العدد :1013