الثورة أون لاين – رشا سلوم:
ما زالت فيرجينا وولف تشغل النقاد والمترجمين بما تركته من أعمال إبداعية خالدة، ولا يمضي عام دون أن نجد عملاً من أعمالها مترجماً إلى اللغة العربية، الجديد عن دار التكوين بدمشق التي يديرها الشاعر والأديب سامي أحمد، صدرت ترجمة رواية: إلى المنارة ترجمها دكتور مالك سلمان:
مثل عملٍ فنيّ” – كرّرَت ثم رفعت نظرَها عن اللوحة في اتجاه غرفة الجلوس وعادت تنظر إلى اللوحة ثانية، يجب أن ترتاحَ قليلاً، بينما كانت تأخذ قسطاً من الراحة وتنقّل نظرَها بين اللوحة ودرج الغرفة بشيء من الضبابية انتصب فوقها ذلك السؤال القديم الذي لا ينفكّ يعبر سماءَ الروح .. السؤالُ الضخم الذي يتشكل في لحظات كهذه آنَ تُطلق لمشاعرها العِنان وتدَعُها تتدفق .. توقف فوقها وأرخى عليها ظلالَه: ما هو معنى الحياة؟ هذا كل شيء – سؤال بسيط .. سؤالٌ يلحّ على المرء مع مرور السنين.. لم يهبط ذلك الوحيُ العظيم قط .. ربما لم يهبط هذا الوحي العظيم أبداً .. فعوضاً عن ذلك كانت هناك تلك المعجزات اليومية الصغيرة .. تلك الإشراقات .. تلك الأضواء الخافتة التي تتلامَع فجأة في الظلام .. ها هو واحد منها .. هذا وذلك وذاك .. هي وتشارلز تانسلي والموجة المتكسّرة .. السيدة رامزي وهي تجمعهما معاً .. السيدة رامزي وهي تقول “الحياة تتوقف هنا” .. السيدة رامزي وهي تحوّل اللحظة إلى شيءٍ أبديّ (كما حاولت ليلي تحويل اللحظة إلى شيء أبديّ في مجالٍ آخر) – هذه هي طبيعة الوحي .. فمن وسط الفوضى يتخَلَّق الشكل .. وقد أخذ هذا العبور والتدفق الأبدي شكله واستقرّ (نظرت إلى الغيوم تعبُرُ والأغصان تتمايل).. الحياة تتوقف هنا، قالت السيدة رامزي .. “السيدة رامزي! السيدة رامزي!” – كرّرَت .. كانت تدين لها بهذا كله.
أما وولف كما تقول عنها عزة مازن في المجلة الثقافية الجزائرية، فقد تركت الكاتبة الإنجليزية فرجينيا وولف (1882- 1941) بصمة عميقة في عالم الأدب، بأن رسخت لتيار الوعي وارتادت آفاق الرواية بعيداً عن أساليب الحكي التقليدية في العصر الفيكتوري، فركزت على الحياة الداخلية للشخصيات، حيث يتحقق التأثير النفسي عبر الصور والرموز والاستعارات. ومن أهم أعمالها “مسز دالوي (1925)، و”إلى الفنار (1927)، و”الأمواج” (1931)، كما كتبت أعمالاً رائدة حول نظرية الأدب وتاريخه، وكتابة المرأة، وكانت لها أراؤها السياسية التي عبرت عنها في كتاباتها الأدبية وغير الأدبية، ولكن مع كل هذا القدر من التميز الإبداعي والنقدي عانت فرجينيا وولف، على مدى حياتها، من نوبات انهيار عصبي وجنون، ما أدى إلى وفاتها منتحرة بأن ألقت بنفسها في النهر، ولم تتجاوز التاسعة والخمسين من عمرها.
بعد حياة حافلة بالإبداع الأدبي والنقدي، اختفت الكاتبة الكبيرة في الثامن والعشرين من مارس عام 1941، بعد أن تركت رسالة إلى أختها فانيسا بيل، وأخرى لزوجها ليونارد وولف، تشير الرسالتين إلى أنها في طريقها لقتل نفسها، ولكنها لم تومئ إلى الكيفية أو المكان، ربما لم يخطر لها أن النهر الذي خططت أن تغرق نفسها فيه سيجرف جثتها بعيداً ويحول بين أصدقائها وأفراد أسرتها أن يكتشفوا ما حدث لها لثلاثة أسابيع كاملة. ولكن بعد اكتشاف قبعتها وعصاتها بالقرب من نهر أوس، سلمت أسرتها بأنها أغرقت نفسها، وإن لم يكن لديهم الدليل القاطع على ذلك.
بعد ثلاثة أسابيع من غيابها غير المبرر جرف النهر جثة فرجينيا وولف بالقرب من جسر قريب، واكتشفها مجموعة من الأطفال يلعبون بجوار الجسر، وفي التاسع عشر من إبريل أعلنت وكالة الأسوشيتيد برس العثور على جثة فرجينيا وولف، وأكدت أنها أغرقت نفسها في النهر، ألمحت المقالة إلى أن الحرب العالمية الثانية الدائرة آنذاك كان لها دور في انتحار الكاتبة الكبيرة، التي تعرض منزلها للقذف بالقنابل مرتين أثناء الحرب، ولكن هل كانت الحرب وحدها سبباً في انتحار كاتبة بحجم فرجينيا وولف، تركت بصمتها العميقة على الأدب العالمي؟ في مقال لها حول الواقعة بجريدة النيويرك تايمز (فبراير 2012) ضمنت الكاتبة ربيكا بياتريس بروكس نص خطاب فرجينيا وولف إلى زوجها ليونارد:
“عزيزي.. يتأكد لدىَ أنه سينتابني الجنون مرة أخرى. أشعر أنه لا يمكننا خوض أوقات عصيبة كهذه من جديد.. أشعر أنني لن أتعافى هذه المرة.. بدأت الأصوات تداهمني ولا يمكنني التركيز. لذلك أفعل ما أراه الأفضل.. لقد منحتني كل سعادة ممكنة…. لم أكن أظن أن هناك من هم أسعد منا، حتى داهمني هذا المرض الفظيع. لا أستطيع الجهاد أطول من ذلك. أعرف أنني أفسدت حياتك، ولكني أعلم أن باستطاعتك أن تواصل الحياة دوني…. أردت فقط أن أقول كم أدين لك بكل سعادة في حياتي. لقد كنت بالغ الصبر معي وكريماً بلا حدود…. لو كان هناك من أنقذني فهو أنت.. ضاع مني كل شىء إلا يقيني بكرمك.. لا أستطيع المضي في إفساد حياتك بعد الآن.. لا أظن أن هناك من كان أسعد منا”.
وفي خطاب أرسله زوج أختها بيل إلى أحد أصدقائه بعد اختفائها بعدة أيام (كشف عنه أرشيف مجموعة بلومزبيري عام 2010) إشارة إلى إصابتها بنوبات جنون. كتب بيل: “كان واضحاً قبل عدة أسابيع من اختفائها أن وولف كانت في طريقها لواحدة من نوبات الانهيار العصبي الطويلة المؤلمة، والتي طالما انتابتها كثيراً.. مر عليها عامان تتوقع الجنون، تبعهما عامان استيقظت فيهما على عالم شكلته الحرب، ما يجعلني أوقن أنها لم تكن بكامل عقلها”.