الثورة أون لاين – عبد الحليم سعود:
لا تزال التداعيات الخطيرة لوعد بلفور المشؤوم قائمة ومستمرة لجهة تغذية منطقة الشرق الأوسط ببؤر التوتر والإرهاب، رغم همروجة التطبيع الممجوجة التي يشرف عليها الرئيس الأميركي دونالد ترامب بنفسه مع صهره الصهيوني جاريد كوشنير، ولا يزال خلق الصراعات والأزمات المتتالية للدول العربية المناصرة للقضية الفلسطينية هدفاً بحد ذاته من أجل بقاء الأمن والاستقرار في عموم المنطقة هشاً، كي يبقى الكيان الإسرائيلي وحده في أمان ويؤدي دوره الوظيفي كقاعدة متقدمة للصهيونية العالمية والاستعمار الغربي بنجاح، ما يعزز القناعة بأن من أعطى هذا الوعد الباطل للحركة الصهيونية قبل أكثر من مئة عام كان يخطط لحروب وكوارث متلاحقة في منطقتنا، لتأتي أحداث السنوات الأخيرة في العديد من الدول العربية أو ما يسمى “الربيع العربي” ترجمة لأطماع ونيات استعمارية لطالما أضمرتها دول الغرب، وفي مقدمتها بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية التي حلت مكانها في رعاية المشروع الصهيوني، وكذلك التدخل غير المشروع بشؤون المنطقة عبر ضغوط سياسية أو الدفع بقوات احتلال، ودعم مرتزقة ومليشيات انفصالية كما هو الحال الآن في الجزيرة السورية والعراق.
فرغم بطلان هذا الوعد المشؤوم من الناحية القانونية والإنسانية باعتباره “وعد من لا يملك لمن لا يستحق”، لا تزال سلطات الاحتلال تعتبره من أهم المستندات القانونية التي تستند عليها في قيام كيانها، وتنصّ الوثيقة على أن :”حق اليهود في الانبعاث القومي في بلدهم اعترف به إعلان بلفور”، وللتأكيد أكثر على حجم المؤامرة التي استهدفت فلسطين قبل أكثر من مئة عام، وهنا ينبغي التذكير بأن وعد بلفور جاء بعد مفاوضات استمرت ثلاث سنوات بين الحكومة البريطانية واليهود البريطانيين والمنظمة الصهيونية العالمية قبل أن يخرج بشكل خطاب موجه من آرثر بلفور وزير خارجية بريطانيا يوم 2 تشرين الثاني عام 1917 إلى اللورد اليهودي المعروف والتر روتشيلد، ومن يتابع سياسة الكيان الصهيوني في السنوات الأخيرة وسلوكه على الأرض من استيطان وتهجير وقمع ومحاولات مستمرة لتصفية القضية الفلسطينية عبر ما بات يعرف بصفقة القرن، سيجد في هذه السياسة تجسيداً دقيقاً للوعد المذكور الذي نص على إنشاء «وطن قومي لليهود» بكل ما يعنيه ذلك من إفراغ فلسطين من أصحابها الشرعيين.
فكل الحكومات الصهيونية وعلى رأسها حكومة الإرهابي بنيامين نتنياهو حاولت استغلال كل الظروف والأوضاع التي مرت بها منطقتنا والعالم لتوسيع وترسيخ قيام كيانها ليس على أرض فلسطين وحسب وإنما على أكبر بقعة من الأرض العربية، من خلال انتهاج سياسة العدوان والاحتلال والاستيطان، حيث لم تكتف فقط بفلسطين التاريخية بل امتدت أطماعها إلى الجولان العربي السوري وشبه جزيرة سيناء المصرية وغور الأردن وجنوب لبنان ووصلت اعتداءاتها إلى العراق والسودان، واغتيالاتها بحق المناهضين لمشروعها التوسعي، وما تزال تطمح للمزيد من الهيمنة والتوسع في المنطقة عبر “مشروع التطبيع” حيث بات الخليج العربي ووادي النيل جزءاً من مخططاتها للوصول إلى الشعار المكتوب على باب الكنيست الإسرائيلي “حدودك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل” حيث يعتبر الوجود الأميركي غير الشرعي في سورية والعراق من ضمن أولويات المشروع الصهيوني لتحقيق هذه الغاية ولاسيما أن المليشيات الانفصالية في البلدين على علاقة مشبوهة مع الكيان الصهيوني.
ومع مجيء الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى السلطة وتكليف صهره الصهيوني جاريد كوشنر المعروف بولائه للكيان الصهيوني بقيادة المساعي لإتمام صفقة القرن، بات واضحاً أن القرار متخذ لتصفية القضية الفلسطينية وجر الأنظمة العربية “الخانعة” إلى نفق التطبيع من أجل الضغط على دول المواجهة أو محور المقاومة الذي يتمسك بحقوق الشعب الفلسطيني ويسعى بكل ما يستطيع لتحرير الأرض واستعادة الحقوق المغتصبة.
وكما هو واضح لم يعد إنشاء “وطن قومي لليهود”، كما جاء في نص الوعد المشؤوم هو المطلوب حالياً حيث يعتبر هذا الهدف منجزاً في نظر أصحابه، بل باتت السيطرة على المنطقة وثرواتها ومقدراتها وقرارها السياسي والاقتصادي جزءاً من المخطط الأكبر للمشروع الصهيوني المدعوم غربياً، إضافة إلى ضرب أي شكل من أشكال الوحدة أو التضامن أو التعاون بين الدول العربية، وهذا ما يفسر إصرار ترامب على شرذمة العرب مجدداً وإلحاقهم بمشروعه عن طريق التطبيع المجاني مع الكيان الصهيوني .
لم يكن اختيار فلسطين من قبل بريطانيا والحركة الصهيونية محض مصادفة بل كان له أسباب ومبررات تراعي المصالح البريطانية في منطقتنا، وقد ذكرت بعض الوثائق التاريخية أن حاييم وايزمن ــ وهو من أبرز زعماء الحركة الصهيونية ــ حاول إقناع الانكليز بضرورة حماية قناة السويس وذلك عن طريق إرسال مليون يهودي إلى القناة لإقامة مستوطنات حولها، وهذا ما يفسر حرب السويس عام 1956 ضد مصر ــ العدوان الثلاثي ــ بعد تأميم الزعيم جمال عبد الناصر للقناة، ومشاركة كل من فرنسا وبريطانيا إلى جانب الكيان الصهيوني في تلك الحرب العدوانية الفاشلة، كما يفسر تحول الكيان الغاصب إلى ترسانة هائلة من الأسلحة التقليدية وغير التقليدية بما فيها النووية والكيماوية والجرثومية، وهي ترسانة محمية بفعل وقوة الفيتو الأميركي والغربي في مجلس الأمن، وذلك من أجل أن يبقى هذا الكيان بعبعاً يخيف دول المنطقة وشعوبها ويمنع أي تسوية عادلة في المنطقة، لأن من يملك هذه الترسانة العسكرية وهذه الحماية الدولية لن ينصاع للقرارات الأممية أو للقانون الدولي.
كل ما سبق ذكره يؤكد مسؤولية الغرب عموماً ـ بريطانيا والولايات المتحدة على وجه الخصوص ـ عن كل الجرائم والممارسات العدوانية والعنصرية التي يرتكبها الكيان الصهيوني في منطقتنا وخاصة بحق الشعب الفلسطيني، إذ لا يزال هذا الغرب داعما وراعيا وحاميا لهذا الكيان الغاصب، وهو العلة في تغطرسه وتحديه للقوانين الدولية واستهتاره بكل القيم الإنسانية والشرائع السماوية، فمن غير المقبول أن تبقى “إسرائيل” دون محاسبة أو عقاب وهي التي قامت على أساس الاحتلال والقوة والعدوان والقهر، فتاريخها القصير نسبياً يعتبر سلسلة من الحروب العدوانية والمجازر الشنيعة بحق الإنسانية.
من المثير للاستهجان والقلق وبعد مرور أكثر من قرن على الوعد المشؤوم ومظلومية الشعب الفلسطيني أن يأتي رئيس أميركي بمواصفات ترامب ويطلق المزيد من الوعود “البلفورية” الداعمة للصهاينة عبر الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة للكيان الغاصب، ونقل السفارة الأميركية إليها، والاعتراف بسيادة الاحتلال على الجولان العربي السوري المحتل، وجر الدول العربية واحدة تلو الأخرى للاعتراف المجاني بهذا الكيان، الأمر الذي يخلق تحديات جديدة للشعب الفلسطيني وللداعمين له في محور المقاومة، ولعل أهم ما يمكن القيام به حالياً هو الإصرار على التمسك بالحقوق والنضال المشروع ضد الاحتلال وإجراءاته القمعية والاحتلالية ومسرحيات التطبيع، من أجل إفشال وعود ترامب، وهذا يحتم على الأمتين العربية والإسلامية المزيد من اليقظة والصحوة لإبقاء القضية الفلسطينية حية في الضمائر والأفئدة لتفويت الفرصة على المخططات المشبوهة التي تستهدف شعوب المنطقة