تملكني حزن شخصي عميق وأنا أقرأ نعي المؤسسة الوطنية للمتاحف في المغرب للفنان التشكيلي محمد المليحي، رغم أني التقيته مرة وحيدة في حياتي. وللدقة فأنا من سعى للقائه خلال زيارة صحفية إلى المغرب أواخر عام 1989، مدفوعاً بإعجابي الشديد بتجربته الإبداعية والإنسانية الثرية التي قدمت مثالاً مشرقاً عن المبدع المثقف، وعما يمكنه عمله لأجل ناسه بدءاً من مدينته الصغيرة.
لم تكن تلك الزيارة الصحفية ذات طابع ثقافي، لكن من حسن الحظ أن مضيفينا أدرجوا في برنامجها – بناء على طلبي – لقاءً مع وزير الثقافة محمد بن عيسى، شريك محمد المليحي في إطلاق تجربة تشكيلية تحولت خلال أكثر من أربعين عاماً إلى أحد أهم المهرجانات الثقافية العربية، وهو مهرجان أصيلة نسبة إلى المدينة الساحلية الصغيرة على المحيط الأطلسي، التي حولها المهرجان من مدينة بدائية تفتقر لمعظم متطلبات الحياة الإنسانية، إلى مقصدٍ للسياحة الثقافية. وغني عن القول أن الحديث في زيارة الوزير بدأ، وانتهى، من أصيلة ومهرجانها، رغم أن ابن عيسى لا يوافق على هذا الوصف، فهو يرى أن موسم أصيلة هو مشروعٌ وليس مهرجاناً أو احتفالاً عابراً فقط. فمنذ انطلاق الدورة الأولى للموسم، كان هناك تصورٌ واضحٌ يتمثل بتوظيف الثقافة والفن لتحفيز الناس، واستقطاب سبل الاستثمار في هذين المجالين لتطوير البيئة الاجتماعية والاقتصادية في مدينة قديمة متآكلة كانت (وفق تعبيره) عبارة عن خربة. ولأن الحديث كان عن أصيلة فقد شغل معظمه محمد المليحي الذي أسس وابن عيسى (جمعية المحيط الثقافية) ونظما معاً موسم أصيلة الثقافي. في ذلك الوقت كانت المدينة تعاني مشاكل كثيرة، ومنها مشكلة النفايات، وكان من المهم تحفيز سكانها على المساهمة في حل المشكلة. وتبين بعد مسح سريع أن الذين يرمون النفايات هم الأطفال، فاتجه التفكير لبناء مشروع يبدأ بالطفل. وعلى أساسه تمت دعوة مجموعة من الفنانين التشكيليين إلى رسم أعمال على الجدران العارية في الشوارع، وكان محمد المليحي في مقدمة هؤلاء، فقام برسم لوحات جميلة بأسلوبه المعروف وجعل الأطفال يشاركون في ملء مساحاتها بالألوان. وكانت النتيجة كما أمل المنظمون، فقد حرص الأطفال على صيانة (لوحاتهم) وعلى نظافة المكان، وبعد سنوات قليلة تحولت المدينة إلى معرض تشكيلي في الهواء الطلق، ومن ثم أصبحت ملتقى للفنانين من جميع أنحاء العالم. فإلى ذلك الوقت كان هناك طريق واحد للفنانين الآملين في الحصول على سمعه عالمية، وهو طريق الشمال الذي لم يعترف بالفن في الجنوب، ولم يكن أصلاً على معرفة به. فساهم مهرجان أصيلة في بناء طريق في الاتجاه الآخر، وكان المليحي حاضراً بقوة بفضل جهده، وأهميته الإبداعية. وحين أخبرت الوزير ابن عيسى رغبتي بلقاء المليحي رفع سماعة الهاتف بحماسة وطلب من السكرتارية ترتيب اللقاء.
في اليوم التالي، وأنا على وشك مغادرة الفندق، أخبرني موظف الاستقبال أن الفنان المليحي ينتظرني في بهو الفندق، دُهشت لتواضعه، وزادت دهشتي حين قال لي: «أعلموني أن لديك زيارة سريعة للسوق، سأنتظرك هنا ريثما تعود» أجبته على الفور بأني سألغيها، فعقّب بدماثة جلية: «لا.. سأنتظرك، فقد جئت دون موعد» أسهبت في الحديث عن امتناني لحضوره الذي كان مفاجأة سعيدة لي إذ كنت أنتظر اتصالاً من السكرتارية لتحديد الموعد، وتجنباً لمزيد من الجدل دخلت مباشرة في الحديث عن مشروع أصيلة. وكما أن معظم حديث الوزير ابن عيسى كان عن المليحي. كان معظم حديث المليحي عن محمد بن عيسى وعن الصداقة التي جمعت بينهما بحكم أن كلاهما ولد في أصيلة في وقت متقارب (1936-1937) والتقيا باهتماماتهما الثقافية، والرغبة في تطوير مدينتهما التي تجسدت في مشروع موسم أصيلة، وكيف أنه في الموسم الأول عام 1978 تمت دعوة 11 فناناً تشكيلياً من ضمنهم أسماء كبرى كفريد بلكاهية وميلود لبيض. ولم تكن هناك ميزانية للمشروع، ولا إمكانات مادية، فحلوا جميعاً في بيت ابن عيسى وتقاسموا غرفه.
كنت أعرف الكثير عن محدثي الذي يُعَدُّ من أهم رواد الفن التشكيلي المغربي، واتجاهاته الحداثوية. عن ولادته في أصيلة عام 1936، ودراسته الفن منتصف الخمسينيات في مدرسة الفنون الجميلة في تطوان، ثم متابعتها في إسبانيا وإيطاليا والولايات المتحدة قبل أن يعود إلى المغرب عام 1964 ويعمل أستاذاً للرسم والنحت والتصوير بمدرسة الفنون الجميلة في الدار البيضاء، حيث شكل مع زميليه فريد بلكاهية ومحمد شيبا (جماعة الدار البيضاء) التي اتسم أسلوبها بالحداثة والتجديد. كما أعرف عن سعيه إلى إقناع طلبة مدرسة الفنون الجميلة في الدار البيضاء بأهمية الموروث البصري المغربي، وتقريب التشكيل من الناس. وقد أقام عام 1969 مع زملائه فريد بلكاهية ومحمد شبعة ومحمد حميدي ومحمد أطاع الله معرضاً تشكيلياً في ساحة جامع الفناء بمراكش لتحقيق التواصل المباشر بين الفنان والجمهور في أول سابقة من نوعها. وأعرف أيضاً عن تجربته الإبداعية الشخصية التي قدمت نموذجاً طليعياً عن التمازج بين البيئة والتراث والحداثة، فوُصِفَ برسام الأمواج اللونية والأشكال التجريدية والرموز التراثية الغنية بالألوان الحارة والإضاءة الناصعة. كما أعرف عن موهبته في التصوير الفوتوغرافي وتصميم الملصقات وأنه في عام 1972 أسس وأدار مجلة (المتكامل) التي صدرت باللغة الفرنسية، كما شارك في تأسيس دار نشر شوف الثقافية اليسارية، نسبة إلى نافورة (منهل ماء) شوف الجدارية التاريخية في مدينة مراكش.
كانت كل هذه الأفكار تدور برأسي وأنا استمع إلى حديثه الشائق، الممتلئ حماسة غير مألوفة في رجل تخطى الخمسين، وإلى ذكرياته المتدفقة بحرارة ومتعة. وضعت الورقة والقلم جانباً، وأبعدت عن خاطري الأسئلة الصحفية التي أعرف الكثير من أجوبتها، ففي تلك اللحظة الفريدة قررت أن أضحي بمكسب اللقاء الصحفي، لأجل الاستغراق في ذلك الحديث الإنساني الثري الدافىء.
ولم أندم على ذلك مطلقاً..
إضاءات- سعد القاسم