الجوانب النفسية في رواية “نبوءة على التلفاز”

 الملحق الثقافي:حامد العبد :

من المعروف أن العلاقة بين الأدب وعلم النفس، باتت علاقة تكاملية وطيدة، وهي فوق مستوى الشبهات، فعلم النفس والأدب، كما قال الناقد روباك A.A.Roback في كتابه “سيكولوجيا الأدب”، يتناولان موضوعات واحدة كالخيال والأفكار والعواطف وما شابه بذلك. وهذه العلاقة ليست وليدة هذا العصر، إذ طالما سعى الأدباء لسبر غور النفس البشرية ورصد تصرفاتها وسلوك أصحابها وردَّات أفعالها تجاه الأحداث. وقد استفاد الكثير من الأدباء من الانتصارات المذهلة لعلم النفس التي باتت متاحة لهم، فراحوا يسخّرونها من أجل فهم أفضل للحياة والإنسان، كلٌ بحسب اتساع ثقافته النفسية وعمق موهبته الأدبية.
ومن بين هؤلاء الأدباء كان الروائي والقاص السوري محمد أمين الساطي الذي قدم لنا رواية (نبوءة على التلفاز)، والتي تناول فيها قضية نفسية معقدة عاشها بطلها بكل مآسيها إلى أن هزمته في النهاية.
لقد عبّر الساطي عن سعة اطلاعه على أسرار النفس البشرية منذ بداية الرواية، ومن مقدمتها بالتحديد التي قال فيها: “من غير المستبعد أن تتآمر حواسنا علينا، وتبدأ في خداعنا، ما يسهل علينا اجتياز الخط الفاصل بين الواقع والخيال.. فنغرق في أحلام اليقظة مستمتعين بالأوهام، مبتعدين عن مشكلاتنا اليومية التي لا تنتهي، محققين إشباعاً جزئياً لرغباتنا الجنسية المكبوتة منذ أيام الطفولة، حتى نلاحظ من دون أن ندرك بعد فوات الأوان، أننا قد انفصلنا كلياً عن كل ما يحيط بنا وخلقنا عالمنا الخاص بنا”.

رغبات دفينة
جسد بطولة هذه الرواية شاب تنطوي شخصيته على الكثير من العقد النفسية والرغبات الدفينة المكبوتة، وعلى نشاط باطني لاشعوري انفلت من عقاله، فأودى بصاحبه إلى عالم الانحراف والجريمة. هو في الأصل إنسان بسيط إلى حد السذاجة ومهووس بالأمور الغيبية وبمخططات ما يسمى بالحكومة العالمية الخفية التي تتحكم بمصائر البشر “التي تضيف مادة الفلورايد إلى إمدادات المياه العامة باسم الحد من تسوس الأسنان، ولكن في الحقيقة، لهذه المواد مضاعفات خاصة، توثر في تفكير المجموعات البشرية”، كما أنه مولع بالمقالات التي تتناول الطاقة الروحية “فقد قرأ بالمجلات، أنه يمكن للشخص الخبير رؤية هذه الهالة المشعة التي تحيط بجسم كل واحد منا، إلا أنه عملياً وبعد محاولات لا تعد ولا تحصى، لم يتمكن من رؤيتها ولو لمرة واحدة”. كما أنه انطوائي جداً يخلق بينه وبين الآخرين جداراً ليؤمن له الحماية الذاتية من اكتشافهم لما يدور في عقله من أفكار وهواجس.
وفي وصفه لبطله عاد بنا الكاتب إلى طفولته عندما كانت تتركه أمه المهملة لساعات طويلة، يجلس فيها بمفرده يشاهد فيها أفلام الكرتون لينشغل بها عنها، حتى أصبحت الشخصيات الكرتونية الوهمية التي يتعلق بها جزءاً من عالمه الخاص، تلازمه طوال الوقت لتعطيه فرصة للهروب من الملل اليومي الذي يعيش فيه، وأصبح غير قادر على التركيز على دروسه والإصغاء لمعلمته في الصف الأول الابتدائي لكثرة الساعات التي يمضيها في ممارسة أحلام اليقظة. ومع مرور الوقت تعمق انفصاله عن عالمه الخارجي، وأصبح أقل تفاعلاً مع الأحداث التي تحيط به. أما في أيام المراهقة فقد بدأت تلازمه مشكلة الخجل، وتشكل لديه حاجز من الخوف في وجه الجنس الآخر. وبالتدريج بدأت بعض الأصوات الغريبة تتسرب إلى ذهنه، وتسيطر على عقله، فأصبح غير قادر على نسيانها، وفي الوقت ذاته يجد نفسه مضطراً للاقتناع بتلك التصورات غير المنطقية، ومن بينها تصوره بأن أحد مذيعي التلفاز (الذي يمتلك قدرات غيبية خارقة) قد بدأ بتوجيه الارشادات له والنصائح من أجل حلّ مشكلاته المادية المتأزمة، حيث شكلت هذه الحادثة ذروة الحبكة الروائية، لتنحو بعدها الرواية منحىً بوليسياً بامتياز عبر سلسلة من عمليات السطو والجريمة التي امتازت بالإثارة والتشويق. وهنا نستطيع القول إن صوت هذا المذيع ما هو إلا صدى عقله الباطني المشوش، وخياله المريض الذي كان يؤرّق حياته، لدرجة أنه حاول في أحدى المرات أن يحطم شاشة التلفاز بمطرقة، لولا أن المذيع نهاه عن فعل ذلك، فارتعد البطل خوفاً وتراجع عن فعلته ليذعن بعد ذلك لهذا التصور المريض الذي أودى بحياته في آخرا لمطاف.

السارد العليم
استخدم الكاتب في روايته أسلوب السرد بصيغة الغائب، أي بصيغة (السارد العليم) حسب مصطلحات علم السرد، والذي يعلم عن شخصياته وميولها ونزعاتها الدفينة أكثر مما تعلم هي نفسها عن ذاتها وعن بعضها البعض (وهذا ما لا يكون متاحاً عند السرد بصيغة المتكلم)، فراح يسلط الضوء على صفات شخصياته النفسية منها بالتحديد، وذلك باستخدامه طريقتين اثنتين، أولهما هي طريقة الوصف المباشر لهذه الشخصيات كما هو الحال حين وصف (سلمى) زميلة وائل في العمل عندما قال: “إن المجتمع الذكوري الظالم الذي تعيش فيه، لم يسمح لها يوماً أن تعبر عن مشاعرها، ما دفعها إلى التركيز على الرؤيا الداخلية لأعماقها، واستمر اهتمامها بهذه البصيرة الداخلية، حتى بعد أن تجاوزت مرحلة المراهقة”.
أما الطريقة الثانية فقد تمثلت بالسماح لسلوكها وردّات فعلها بأن تشي بخوافي عالمها الباطني وعقدها النفسية. إلا أن الكاتب فوّت على نفسه فرصة استخدام الحوار بين الشخصيات لتكوين فكرة أفضل عنهم لدى المتلقي، وهذا ما يشكل في واقع الأمر حالةً عامة في أعمال الساطي، متناسياً بذلك أن جنساً أدبياً عظيماً ظهر قبل الرواية بآلاف السنين يُدعى المسرح جعل من الحوار الأداة الوحيدة له للكشف عن المكنونات النفسية للمتحاورين، ولا ننسى هنا مقولة سقراط الشهيرة (تكلم كي أراك)، كما أن للحوار دوراً مهماً في كسر رتابة السرد عموماً، بالذات عندما يكون بصيغة الغائب كما هو الحال في هذه الرواية، وقد زاد من هذه الرتابة أحياناً الإكثار من التفاصيل المملة أثناء الحديث عن الترتيبات التي أجراها البطل لتنفيذ أعماله الخارجة عن القانون، بالإضافة إلى أسلوب طباعة الرواية الذي استخدم هوامش ضيقة جداً وأسطر متقاربة للغاية.
إن القراءة المتسرعة لهذه الرواية قد تدرجها تحت باب الروايات البوليسية، وهي من الممكن اعتبارها كذلك في نصفها الثاني بالتحديد حيث شكل البطل فيه عصابة سطو وسرقة، وقد حاك الكاتب الأحداث فيه ببراعة فائقة معتمداً على سعة معرفته بالحياة العملية لعالم البنوك والأسواق. وهذا ما جعل الرواية تصلح لأن تكون نواة عمل درامي أو سينمائي ممتع. ولكن الاقتصار على ذلك فيه تسطيح لفكرة الرواية الرئيسة التي تناولت بعمق إنساناً يمتلك ذهنية مضطربة وحللت هذا الذهنية بحرفية. كما أن هذه القراءة السطحية قد تنظر إلى بطل هذه الرواية على أنه مجرد ضحية لقيم المجتمع المادية والاستهلاكية، وأن كل ما قام به هو التمرد على هذه القيم ولكن بطريقة منحرفة.
وهنا أيضاً نستطيع القول إن في هذه النظرة قصور عن فهم كنه هذه الشخصية وتحميل النص أكثر مما يحتمل، فالبطل كان في الأصل يحمل شخصية عدوانية مشحونة بالاعتلال العقلي والنفسي، وكانت تفكيره اللاواعي يبحث عن فرصة حتى يترجم أفكاره الخبيثة على أرض الواقع، وهو إنسان متقوقع على نفسه لا يكترث بمصير الآخرين، ولم يكن يستطيع أن يشعر تجاه أي امرأة بالحب، فالنساء كنَّ بالنسبة إليه فرصة لإثارة شهوته الجنسية وليس حبّه، بما في ذلك ابنة جارته (المتخيلة). أما زميلته سلمى فقد أيقظت لديه مشاعر الإعجاب ممزوجة بالرغبة في السيطرة عليها، وفرصة لمساعدته على تجاوز خجله تجاه الجنس الآخر. بمعنى آخر، كان البطل يحاول أن يصور دوافعه بأنها كانت نبيلة، ولكنها في الحقيقة لم تكن كذلك، فقد كان يقف وراءها حقد دفين، وجد في توجيهات المذيع الوهمية مبرراً لترجمته على أرض الواقع. وبالتالي يمكننا القول إن البطل كان وحشاً وفريسة في الوقت نفسه.
في النهاية نستطيع القول إن هذه الرواية بمجملها تناولت أزمة نفسية لها أبعاد ذاتية واجتماعية وفكرية، نسجها الكاتب بخيال خصب لا يتمتع به الكثير من الكتّاب الذين يتهيبون الدخول في هكذا مواضيع شائكة، خصوصاً أنها تستلزم من كاتبها ثقافة نفسية واسعة، أثبت الساطي في أكثر من عمل له أنه يمتلك ناصيتها باقتدار.

التاريخ: الثلاثاء3-11-2020

رقم العدد :1019

 

آخر الأخبار
رئاسة مجلس الوزراء توافق على عدد من توصيات اللجنة الاقتصادية لمشاريع بعدد من ‏القطاعات الوزير صباغ يلتقي بيدرسون مؤسسات التمويل الأصغر في دائرة الضوء ومقترح لإحداث صندوق وطني لتمويلها في مناقشة قانون حماية المستهلك.. "تجارة حلب": عقوبة السجن غير مقبولة في المخالفات الخفيفة في خامس جلسات "لأجل دمشق نتحاور".. محافظ دمشق: لولا قصور مخطط "ايكوشار" لما ظهرت ١٩ منطقة مخالفات الرئيس الأسد يتقبل أوراق اعتماد سفير جنوب إفريقيا لدى سورية السفير الضحاك: عجز مجلس الأمن يشجع “إسرائيل” على مواصلة اعتداءاتها الوحشية على دول المنطقة وشعوبها نيبينزيا: إحباط واشنطن وقف الحرب في غزة يجعلها مسؤولة عن مقتل الأبرياء 66 شهيداً وأكثر من مئة مصاب بمجزرة جديدة للاحتلال في جباليا استشهاد شاب برصاص الاحتلال في نابلس معبر جديدة يابوس لا يزال متوقفاً.. و وزارة الاقتصاد تفوض الجمارك بتعديل جمرك التخليص السبت القادم… ورشة عمل حول واقع سوق التمويل للمشروعات متناهية الصغر والصغيرة وآفاق تطويرها مدير "التجارة الداخلية" بالقنيطرة: تعزيز التشاركية مع جميع الفعاليات ٢٧ بحثاً علمياً بانتظار الدعم في صندوق دعم البحث العلمي الجلالي يطلب من وزارة التجارة الداخلية تقديم رؤيتها حول تطوير عمل السورية للتجارة نيكاراغوا تدين العدوان الإسرائيلي على مدينة تدمر السورية جامعة دمشق في النسخة الأولى لتصنيف العلوم المتعدد صباغ يلتقي قاليباف في طهران انخفاض المستوى المعيشي لغالبية الأسر أدى إلى مزيد من الاستقالات التحكيم في فض النزاعات الجمركية وشروط خاصة للنظر في القضايا المعروضة