الملحق الثقافي:وائل حمشو :
ماذا نفعل والذاكرة تتسع ثقوبها، حتى إنها قاربت على أن تصبح فراغاً مؤدياً للعدم، وكأننا بلا تاريخ؟
هكذا ألمح أطفال أسرتي، وغيرها، بلا أغنية تخصهم.
أما الكبار فيلهثون وراء لقمة العيش من دون أن يأبهوا بتاريخ غنائهم الشعبي، وإن غنوه غنوه نشازاً.
كيف تخلوا عنه هكذا ليستعينوا بأشرطة رخيصة في مناسباتهم المتعددة؟ إلى متى سنظل عاجزين عن لمّ نثار أرواحنا؟ وشتات أغانينا التي ضاعت أو كادت؟ وكيف سكتت مؤسساتنا الثقافية عن مهمة الجمع والتدوين والتصنيف طيلة هذه السنوات؟
حالة السكون المريب هذه لصالح موجة الأغاني الحديثة، والتي لا نرفضها بالمطلق، ولكن بالأغلب لأنها تستهلك الروح وتدمر الإنسان وتشيئه، وتدفع عقله وروحه لمغرياتها، فنظل أمة مستهلكة لغث الكلام ونشاز الموسيقى ولفيديوهات عاجزة عن أن تصل بنا إلى الروح العميقة للجماعة الشعبية التي أنتجت في كل لحظاتها أغنيات تواكب دورة حياتها المكتنزة بالحركة واللون والموسيقى والمعنى.
فالاهتمام بالأغنية الشعبية يسهم في تكوين روح خلاقة تؤهل الطفل لمواجهة تحديات المستقبل، لأنها تضع الطفل أمام تراثه الفني الغني الذي لا يعرفه، وتقوم بتأصيل هويته وتدعم روح الانتماء بداخله، لأن الأغنية الشعبية تحمل قيماً جمالية للمجتمع عبرت كل السنين لتعلن رسوخها واقتحامها لكل أسوار الزمن، تاركة وراءها الحاجة إلى بديل جمالي يقيها مما يفرضه الشارع بآلياته الفجة التي تتصالح مع السوق ومعطياته، ولاستهلاك ما يصدره من توجهات.
فالتراث الشعبي للأمم هو الدرع الواقي لمواجهة المستقبل، فهو الذي يضمن لها المحافظة على الهوية، ويكشف لنا عن مكنون شخصيتها، ويسهم في تدعيم أواصر الانتماء مع ماضينا الحي عبر هذا الإبداع المتجدد في قلوب الرواة وعلى ألسنتهم، والذي نخاف عليه من الضياع.
هذه الضرورة المتمثلة في الخوف من ضياع التراث وطمس معالمه التي تشكل ملامحنا، وتحافظ على جوهرنا، هي التي تدفعنا للمطالبة بنقله من حالة الشفهية إلى حالة الكتابية والتسجيل الصوتي لتوثيق هذا الزخم الذي يكاد يتلاشى في ضجيج الوسائط الحديثة، حتى يمكننا أن نحلم معه بحياة جديدة تليق بوطننا الحبيب.
كم أتمنى أن تعود الأغنية الشعبية إلى رونقها كي يستعيد أبناء مجتمعنا هذه النصوص من مكامنها الغائرة في أرواحهم.. فربما نعيدهم إلى الموسيقى والخيال وما يتضافر معهما من عادات وتقاليد ومعتقدات شعبية تمثل عماداً مهماً في اكتشاف ذاتنا الحضارية وهويتنا، فضلاً عن إتاحتها للمعنيين بالغناء، وبالمناهج الدراسية لمادة التربية الموسيقية، كي يضعوها ضمن انشغالاتهم بوصف الموسيقى محركاً وفاعلاً أساسياً في وعي الطفل، وكذا لمواجهة الابتذال الغنائي الذي يقتحم بيوتنا وعقولنا وعقول أطفالنا.
فهل يوجد من يريد أن يسمع أغاني الأرض، وخلجات أرواح أجدادنا.. أم إن الغزو الثقافي الغربي خرّب ذائقتنا؟
التاريخ: الثلاثاء3-11-2020
رقم العدد :1019