ليست رفاهية أو ترفاً والتفريط بمعاييرها يضيع الفرص ويؤدي إلى خسارات غير محسوبة الجودة رافعة حقيقية لكل مجالات التنمية
الثورة أون لاين – محمود ديبو:
لا يخلو يوم من حديث هنا وإشارة هناك عن تراجع مستويات جودة منتجات /سلع وخدمات/ كانت تقدم للمستهلكين بمستويات أفضل وتحظى برضى شبه كامل، وفوق ذلك تستمر الأخبار التي تتناقل أعداد الحالات المضبوطة من الغش والتلاعب والتدليس وغيرها في أسواقنا المحلية..
وسط هذا الركام والزحام الذي أودى بقيم الجودة ومفاهيمها وضروراتها، مازلنا نرصد بعد الأصوات والنداءات والدعوات الملحة للعودة إلى تكريس قيمة الجودة كمفهوم عام للحياة، من منطلق أنه ضرورة وليس رفاهية أو ترفا، فالجودة هي صناعة حياة وهي عنوان يتجاوز كل الحدود ويبقى راسخاً في أذهان الجميع..
كما أنه وفي كل عام تقام الندوات والمؤتمرات وورشات العمل التي تحيي ذكرى اليوم الوطني للجودة وربما اليوم العالمي أيضاً، وجميعها تحفل بالكثير من المعلومات التي تتعلق بتطبيق أنظمة الجودة في مختلف مجالات الحياة، وكذلك بالتوصيات التي تدعو إلى اعتبار الجودة منهج حياة كاملا، لكن وعلى ما يبدو أن درجة الاهتمام بكل ما يطرح لا يخرج عن إطار التأكيدات الرسمية التي تقال في المناسبات، مع الكثير من الصور التذكارية التي تُحفَظُ جميعها في أرشيف القائمين على تلك الاحتفاليات..
نطلب المساعدة
بسمة إبراهيم رئيس مجلس إدارة الجمعية العلمية السورية للجودة وفي حديثها للثورة قالت: نحن الجمعية الأهلية الوحيدة في البلاد التي تعنى بنشر ثقافة الجودة، ونسعى لإيصال صوتنا إلى أعلى المستويات، وقد كان لنا لقاء هذا العام مع السيد رئيس الحكومة الذي أبدى اهتماماً بالجودة، وحالياً هناك سعي للتشبيك مع مختلف الجهات العامة والوزارات والمؤسسات لإيصال رسالتنا، وأيضاً مع المكتب الناظم للجودة التابع لرئاسة الحكومة.
ونتمنى أن نحظى بمساعدة الجميع وتعاونهم واستجابتهم في تطبيق نظم الجودة على اعتبار أن الجودة تدخل في كل مناحي الحياة وتساهم في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والصناعية والزراعية وتنمية الموارد البشرية وغير ذلك، ومن خلال هذا المفهوم الشامل للجودة نجد أنها أحد الركائز الأساسية لقوة الاقتصاد، وهي معيار نجاح وفشل لأي نشاط في حال كان يطبق معايير الجودة أم لا، والمقياس الأول والأخير هنا هو رضى المستهلك ومدى ارتياحه للمنتج /سلعة أو خدمة/.
محدودية الموارد المخصصة للجودة
وحول مدى تطبيق نظم الجودة ومعاييرها في مختلف المجالات وخاصة مع الجهات العامة التي يجري التعاون معها من قبل الجمعية، في ضوء هذا السيل من الشكاوى اليومية وحجم المخالفات المضبوطة في أسواقنا المحلية والتي ترتبط بمخالفات تتعلق بالتلاعب بالمواصفات وبمستوى جودة المنتج وغيرها من المخالفات ذات الصلة، قالت رئيسة مجلس إدارة الجمعية: لا شك بوجود مؤسسات وشركات تقدم منتجات تستحق الحصول على شهادة الأيزو وبالمقابل هناك منتجات تحتاج لبذل المزيد من الجهد للارتقاء بجودتها، وعلى مستوى المؤسسات العامة، فقد لمسنا اهتماما لكن وبما أن تطبيق معايير الجودة له تكاليف لتلبية متطلباتها، فإننا نجد أن محدودية الإمكانيات المادية والموارد المخصصة لهذا الأمر يساهم في تأخير تطبيقها حالياً.
دورات تدريبية لمختلف الشرائح
وعلى العموم فإن الجمعية لم تتوقف عن إقامة العديد من الدورات التدريبية على مختلف قواعد ونظم الجودة في مجالات عدة فمنها على سبيل المثال دورة ممارسات التصنيع الجيد GMP، ودورة المتطلبات العامة لكفاءة مختبرات الفحص والمعايرة، ودورة حول نظام الهاسب وهو نظام وقائي للتأكد من سلامة الغذاء، وكذلك دورة في إدارة المخاطر وفقاً للمواصفة القياسية الدولية ISO 31000: 2018، ودورة نظام إدارة السلامة و الصحة المهنية ISO 45001:2018، وهذا الشهر كانون الأول الجاري هناك دورة في نظام إدارة الجودة للتجهيزات الطبية وفق المواصفة القياسية الدولية ISO 13485:2016 ، ونخطط في الشهر القادم لإقامة عدة دورات منها دورة في نظام إدارة السلامة المرورية على الطرق وفق المواصفة القياسية الدولية
ISO 39001:2012 ، ودورة في المواصفة القياسية الدولية الإرشادية لخطط الجودة ISO 10005 :2018 ، ودورة في نظام إدارة سلامة الغذاء وفق المواصفة القياسية الدولية ISO 22000 :2018 ، ودورة في نظام إدارة الفعاليات المستدامة وفق المواصفة القياسية الدولية ISO 20121 :2012.
تأهيل المؤسسات الصناعية
وعلى العموم تشير إبراهيم إلى ضرورة لحظ بعض التوصيات والمقترحات لدعم عمل الجمعية في نشر ثقافة الجودة من خلال اعتبارها جهة وطنية مانحة للشهادات، وتمثيلها في المركز السوري لخدمات الاعتماد، واعتبارها طرفا أساسيا في إعداد التقرير الطوعي السوري الخاص بأهداف التنمية المستدامة، واعتماد الجمعية كذراع استشاري لبناء نظم إدارة الجودة في شركات القطاع العام، ووضع برنامج وطني لتأهيل المؤسسات الصناعية العامة والخاصة، والحصول على أحد شهادات المطابقة لأنظمة الجودة، مشددة على ضرورة إدخال مفاهيم الجودة في المناهج التدريسية ولجميع مراحل التعليم من الابتدائي وحتى الثانوي.
المشكلة بالفهم
خبير الجودة مهند توتنجي رأى من خلال تجربته العملية في مجال الجودة أن أهم تحد يواجه الجودة اليوم هو مسألة الفهم، أي فهم آثار تطبيق معايير الجودة في أي عمل، حيث أنه وللأسف يتم النظر إلى هذا الموضوع من خلال الحصول على الشهادة (أيزو)، أما التطبيق على أرض الواقع وآثاره الإيجابية في نجاح المنشأة، فهناك تقصير كبير فيه، خاصة وأن الآثار لا نلمسها بشكل آني وإنما تحتاج إلى وقت.
لا نتائج من اليوم الأول
ومن هنا نبدأ بالإشارة إلى ضرورة التوعية بأن لتطبيق معايير الجودة آثاره على المدى الطويل أي أنه لا يمكن أن نلمس نتائج مبهرة وحقيقية من اليوم الأول، فهي مسألة تراكمية لذلك نجد أن البعض يعتقد أن الإنفاق على تطبيق معايير الجودة يعتبر بلا جدوى وأنه تكلفة زائدة لا ضرورة لها، رغم إظهار حالة الاقتناع (النظري) وإبداء الرغبة بذلك.
سؤال إشكالي
ويضيف توتنجي في حديثه لصحيفة الثورة: هذه إشكالية حقيقية وتحتاج للإجابة على سؤال مهم وهو: هل الجودة حاجة أم رفاهية؟ ومرة أخرى نصطدم بإجابات البعض الذين يرون أن الشركات الكبرى هي وحدها من تلتزم بتطبيق معايير الجودة (لقدرتها على الإنفاق على متطلباتها)، أما باقي المنتجين للسلع والخدمات فهذا الأمر لا يحظى باهتمامهم، فهؤلاء لا يهتمون كثيراً بمفهوم (رضى الزبون) بقدر ما يهتمون بحجم مبيعاتهم وقدرتهم على تحصيل أكبر رقم أرباح ممكن، وهم بذلك لا يعلمون أنهم قد يكسبون المرحلة الحالية، لكنهم يخسرون المرحلة القادمة بسبب عدم اهتمامهم بالجودة.
رضى المستهلك
ولمثل هؤلاء نشير إلى أولى قواعد التسويق التي تقول إن السلعة إذا حظيت برضى المستهلك، فإنه سيتحدث عن تجربته هذه إلى ثلاثة أشخاص كحد أقصى، لكن إذا لم تحظ برضاه وكانت تجربته مزعجة فإنه سيتحدث عنها إلى 11 شخصاً على الأقل، وسيستمر برواية هذه التجربة لكل شخص يصادفه، وهنا الفرق بين التسويق الإيجابي في الحالة الأولى والتسويق السلبي، بمعنى أن السلعة هي التي تتحدث عن نفسها في كلا الحالتين ولكن على لسان المستهلك..
أمثلة كثيرة
وتكون النتيجة هنا أن الاهتمام بكسب رضى الزبائن هو الذي يحقق النجاح على أوسع نطاق والاستمرار ولنا في الكثير من الشركات العالمية أمثلة حية (شركات السيارات، والاتصالات، والأجهزة الالكترونية وغيرها..) التي اعتمدت الرؤية الشاملة ذات الأفق الأوسع وسعت للوصول إلى أكبر عدد من الزبائن داخل أسواقها وخارجها، من خلال تلبية احتياجات الزبائن في كل سوق تتوجه إليه.
دامسكو سوري
وبالعودة إلى الحالة السورية نسأل هل لدينا جودة؟ والجواب بالتأكيد لدينا جودة وكمثال على ذلك (الدامسكو، البروكار، السجاد، الزعتر، الصابون، زيت الزيتون، …) وهناك الكثير، لكن جميع تلك المنتجات اكتسبت سمعتها منذ عقود طويلة، وخلالها كان الصناعي السوري يحرص على تقديم أفضل ما لديه فوصلت منتجاته إلى العالمية، واليوم لا يمكن الحديث عن قماش دامسكو منتج في بلد ما ونقول عنه انه سوري، وإنما نقول أنه تقليد للدامسكو السوري حتى لو كان بمستوى جودة عال..
لكن للأسف لم تتم المحافظة على هذه السمعة مع مرور الزمن نظراً لعوامل كثيرة، في حين بقي (فكر الجودة) هو السائد لدى الصناعيين والمنتجين في دول مختلفة وبالتالي حافظوا على ماركاتهم المسجلة، فيكفي أن نقول (صنع في اليابان) مثلاً لنعلم أن هذا المنتج يتمتع بجودة عالية ويضاهي غيره من المنتجات..
مسؤولية منتجي السلع والخدمات
وهنا لا يجب أن نحمل الجهات الرسمية المسؤولية بقدر ما يتحملها القائمون على العملية الإنتاجية من الصناعيين الذين هم من يجب أن يحرص أولاً على سمعة منتجاتهم سواء في الأسواق المحلية أو الخارجية، فالحكومة توجه وتضبط وترعى هذا النشاط لكنها لا تتدخل بالتفاصيل.
تعليم الجودة بالمدارس
ولنصل إلى مرحلة متقدمة من الاهتمام بمفاهيم الجودة وتطبيقها بشكل سليم، فقد رأى توتنجي ضرورة في الانتقال إلى إدخال الجودة في التعليم منذ مراحله الأولى ليكون تربية وتعليما في آن واحد، لأن إيصال المعلومة للأطفال أهم من إعطائها لخريج الجامعة، لأن هذا الأخير إذا كان يعيش في بيئة لا تتوفر فيها عناصر الجودة فإنه قد يحفظها كمادة نظرية ولن يكون قادراً على تطبيقها عملياً لأن البيئة لا تسمح، ولذلك فإن التغلب على الأزمات الاقتصادية يتم بعدة عوامل أهمها تطبيق نظم الجودة بكل تفاصيلها، وكلما أحسنا تطبيقها كلما كانت الحياة أجمل، وهنا تكمن الحقيقة فالجودة ليست رفاهية، وإنما هي نمط حياة.
تجربة واقعية
السيدة ميساء دهمان عضو لجنة سيدات الأعمال بغرفة الصناعة قالت في حديثها لصحيفة الثورة: إن للجودة تكاليف وكنا دائماً نحرص على تطبيقها، لكن جاءت الحرب العدوانية على سورية ودمرت الكثير من معاملنا وخربت المنشآت وأنا خسرت معملي الكائن في منطقة حرستا بريف دمشق، ومع ذلك عدت للعمل ولكن عن طريق مجموعة ورشات خارجية لإنتاج (ألبسة الأطفال للبنات).
تراجع المنافسة
وقبل سنوات الحرب العدوانية على سورية كنا منافسين بقوة في الأسواق الخارجية وكان المنتج السوري مطلوب بشكل كبير، بالنظر إلى جملة مقومات كان يتمتع بها المنتج السوري في تلك المرحلة أهمها الجودة والسعر، لكن خلال السنوات الأخيرة تراجعت الصناعة وخاصة قطاع الألبسة والنسيج بسبب توقف المعامل في حلب عن إنتاج النسيج، وهذا أثر كثيراً بالنظر إلى أن المنتج الحلبي كان يضاهي بجودته باقي المنتجات وكان عاملاً حاسماً في قدرة الصناعي على إنتاج قطعة مميزة وبمواصفات ممتازة، لكن اليوم لا يتوفر لدينا سوى الأقمشة المستوردة والتي لا تتمتع بمواصفات الجودة المطلوبة وهذا يعود في أحد أسبابه إلى التجار والمستوردين للأقمشة، فبعضهم لا يستورد الصنف الجيد، ويفضل الأرخص رغم تدني مواصفته.
عدم توفر المادة الأولية الجيدة
وتقول دهمان، هنا تبرز أهم تحديات تطبيق نظم الجودة في مجال صناعة الألبسة والمتمثل بعدم توفر المواد الأولية ذات المواصفة الجيدة، يضاف إلى ذلك عوامل إضافية ساهمت في رفع تكاليف الإنتاج، وضيقت فسحة المنافسة واستدعت من الصناعي بذل مجهود أكبر وتحمل أعباء أكبر لتحقيق الجودة وللتمكن من المنافسة والحضور في الأسواق المحلية والخارجية، وأهمها المحروقات وارتفاع أسعار النقل وتراجع فرص التصدير بعد فرض العقوبات الاقتصادية وقانون الحظر الجائر على سورية من قبل قوى العدوان.
سعي مستمر
ومع ذلك يجب ألا يستكين الصناعي ويستمر بالبحث عن فرص جديدة متاحة، وأنا عملت على ذلك واستطعت أن أفتح أسواقا جديدة في أفريقيا لتصريف إنتاجي بعد أن درست تلك الأسواق وعملت على تلبية متطلباتها والمواصفات المطلوبة فيها.