الثورة أون لاين:
مع أن الإنسان مذ واجه الطبيعة أول مرة وقف موقف العاجز المغترب أمامها، لكنها غربة التحدي الأول، ما دعا أحد المفكرين إلى القول: كان الواقع أسطورة حينها، واليوم غدت الأسطورة واقعاً، أمام ما ينتجه العالم من صخب حضاري في الكثير من أحواله وواقعه ليس صحيحاً ولا يمكن أن يكون كذلك، وهذا ما عبر عنه الفكر بمصطلحات مهمة وذات دلالة كبيرة ( الاغتراب )
الاغتراب الثقافي، هو أحد وجوه العجز عن المواجهة، بل يمكن القول: إنه الاستلاب الثقافي والحضاري والوجودي الذي يؤدي في النهاية إلى تحطيم المجتمعات ودمارها، تعمل قوى كثيرة على ترسيخه من خلال أدوات الغزو الثقافي العدواني.
والحقيقة تقال: كانت سورية أول من واجه هذا الاغتراب وعمل على تفكيكه لأنه بنية معقدة ولا يمكن بسهولة التصدي لها، إلا من خلال أدوات ووسائل المعرفة مدعومة بالقيم التي تربينا عليها ( الخير – العدالة – المحبة – الصدق _ الوفاء إلخ ) إلى ما في القائمة من قيم مثلى موجودة، ويعمل العدو الخارجي على تدميرها، من هنا كان لا بد من معرفة أسباب الاغتراب للوصول إلى تفكيكها، الدكتور حليم بركات في كتابه المهم جداً: الاغتراب في الثقافة العربية.. متاهات الإنسان بين الحلم والواقع، يفكك هذه الأسباب ويفندها، ووفق القراءات التي لخصت هذه الأسباب منها ما نشره ديوان العرب، وبالعودة إلى الكتاب نفسه، يمكن إيجازها بالتالي:
“أما مصادر الاغتراب فتتمثل في التفتت الاجتماعي والتجزئة القومية وتقديم الولاء القبلي والعائلي على القومي والاجتماعي، وفي تبعية الاقتصاد العربي للسوق العالمية وخضوعه للشركات المتعددة الجنسيات، وفي شكل خاص في سلطوية الأنظمة التي سلبت المجتمع المدني وظائفه الحيوية واحتكرتها لنفسها، وحرمت المواطن من حقوقه بالمشاركة في عملية التغيير وعطلت دوره في خدمة المجتمع، فبات الشعب عاجزاً تجاه الدولة وكلاهما عاجز تجاه القوى الخارجية التي تسيطر على موارده وتتحكم بمصيره وخياراته”.
هناك إذاً أوضاع تحيل العربي في الزمن المعاصر الى كائن مغترب عن نفسه ومجتمعه ومؤسساته، ما يجعل الخيارات المتاحة أمامه قليلة ومحدودة، والحصار المفروض على حياته شديد الإحكام، تتضافر فيه عوامل متعددة، منها أهمية الجماعات الوسيطة العائلية والقبلية، والترابط الوثيق بين القيم الدينية والقيم العائلية، وتوسل الطبقات الحاكمة الدين لتثبيت شرعيتها، وترسيخ هيمنتها، وتسويغ امتيازاتها الطبقية، ومصالحة الفئات المسحوقة مع واقعها الأليم.
إزاء هذا الواقع المغرّب تتراوح خيارات الإنسان العربي بين الانسحاب واللا مواجهة والهجرة، أو الخضوع والاستسلام والرضوخ للواقع والتكيّف معه، وبين المواجهة بالتمرد الفردي والعمل الثوري في إطار حركة سياسية منظمة.
إلا أن العربي في الوقت الحاضر يميل برأي بركات إلى الانسحاب والرضوخ أكثر مما يميل الى العمل الثوري لأسباب دينية واجتماعية وعائلية.
من أجل خروج الإنسان العربي من حالة الاغتراب السياسي والاجتماعي يدعو المؤلف إلى التغيير التجاوزي وثقافة التحول الشامل ونهوض حركات اجتماعية تحررية تجاوزية تحول الشعب العربي إلى شعب يرفض واقعه المغرب، هذا التغيير التجاوزي الشامل يجب أن يشكل انقلاباً جذرياً في البنى والأوضاع والعلاقات القائمة، وفي مختلف جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، ينتقل معه العربي من مرحلة الانفعال الى مرحلة الفعل بالتاريخ، ومن أجل ذلك التغيير يقدم المؤلف اقتراحات وتوصيات، منها تعزيز قيم الإرادة الحرة والإبداع والابتكار والتفرد، وقيم العقلانية وقبول الآخر، وقيم التمرد والتحرر والتفكير النقدي، ومنها التعامل مع النظام الكوني من موقع الاستقلالية وتنشيط دور المرأة وتقليص الفوارق الطبقية وإحقاق العدالة الاجتماعية.
هذا الواقع الذي صنفه حليم بركات عالم الاجتماع السوري، ازداد اليوم سوءاً وعملت القوى الخارجية بكل وسائلها على زيادة أسبابه، من خلال الضخ الإعلامي و العولمة، من هنا كان لا بدّ من العمل وفق رؤى استراتيجية واسعة على المواجهة وتفكيك أدوات الغزو من المصطلحات إلى التقنيات وما تحمله من رسائل غزو، ومن الطبيعي كما أسلفنا أن تكون سورية أول دولة عربية تواجه مثل هذا الاغتراب وتفكيكه، ومتابعة تطوراته التي يعمل الغزو الخارجي على تجديدها، وكانت كلمة السيد الرئيس بشار الأسد في جامع العثمان دليلاً ومنهاجاً واضحاً للخروج بتوصيات فعلية وعملية لمواجهة الاغتراب عن الذات والوطن والقيم، والمسؤولية جماعية بدءاً من الأسرة إلى كل خلية في المجتمع، العمل معاً بروح الجماعة التي تعمل وتبني وترسم ملامح الغد.