الثورة – رنا بدري سلوم:
علينا ألا ننسى المجازر الكيماوية في غوطة ريف دمشق في ذكراها الثانية عشرة.. وكيف ننسى تاريخ 21 آب، “فالمجزرة التي تنسى تتكرر، ودماء الأبرياء التي سالت في المدن والقرى لم تكن أرقاماً في نشرات الأخبار، بل كانت أحلاماً ووجوهاً وأسماءً، هذه الذاكرة هي حائط الصدّ الأخير في وجه الإنكار، فلماذا ننسى؟!
اليوم ومن داريا المحررة، ونحن نتنفس هواءها العبق بولادة سوريا الحرة، بعد أن حجب شمسها دخان الحرب، فتحت أبوابها للمرة الأولى وهي تتنفس الصعداء، بعيداً عن الكيماوي والخوف والدم والقتل المتعمد، تستقبل الأحرار من كل المحافظات السورية، والذين انضموا إليها قلباً وروحاً، وهم من أكلوا يوماً من عنبها وخضرتها وبساتينها، اجتمعوا وعقدوا المؤتمر الأول تحت عنوان “مجازر سوريا ذاكرة لا تموت” التوثيق من أجل المحاكمة، في قصر الحبيب، برعاية وزارتي الثقافة والإعلام، والفعاليات الحكومية والحقوقية، والنشطاء الاجتماعيين، الإعلاميين، والمنظمات الأهلية.
سوريا ليست جغرافيا، بل ذاكرة تنبض بالدم والدموع، كلمات أعمق من أن تكتب على سطور، بل نخجل أمامها، هذا ما قاله عضو اللجنة التنظيمية للمؤتمر سلمان أبو الخير، منوهاً في كلمته إلى ما ارتكبه النظام المخلوع من مجازر بحق الأبرياء، ملقياً التحية على أرواح شهداء قرية البساتين، الذين ارتقوا بالمئات خلال ساعات، عدا عن خطف الأطفال والنساء، ذاكراً المجازر المرتكبة منذ بدء الثورة والحراك الشعبي، مؤكداً في كلمته “أننا صوت من لا صوت له” مطالباً بحراك مدني يسعى إلى توثيق تاريخ المجازر، وإيصال الصوت إلى الجهات المعنية من هنا من داريا إلى المعضمية وزملكا.. لترتاح روح مئات آلاف الضحايا، خاتماً بالقول: نحن نحفظ أسماء القتلة ووجوههم.. ولن ننساهم.
عصيّ على النسيان
هو اليوم الأقسى في أيام “الاحتلال الأسدي” هكذا وصفه وزير الثقافة محمد ياسين الصالح، حين سألنا بكلمته ماذا يعني هذا اليوم؟ معرباً عن تأثره بما شهدته سوريا خلال أيام الثورة والحرية التي قامت بمطلب محق في الحرية والكرامة، وأن رجالات الثورة على امتداد أعوامها لم يستهدفوا الأطفال، كما فعل النظام الوحشي في إلقاء البراميل الكيماوية على الأبرياء المدنيين الذين ينتمون إلى كل الطوائف والمشارب والأديان، فغدوا ضحايا حرب.
وأشار إلى أطفال أبرياء أُخرجوا من تحت الركام وظن أهلهم أنهم أموات، صور يعجز اللسان في التعبير عنها، قائلاً: آلمتنا صور الأطفال الذين غفوا في الغوطة تحت الغازات السامة، ووجوه الأمهات اللواتي ودعن أبناءهن، وإن داريا اليوم تعود لنا وهي محمولة على أجنحة الوجع كالأم الثكلى التي تبحث عن الخراب في وجوه أطفالها، وتحمل معها جرحها الذي لم يندمل وذاكرتها التي لم تخفت، وشهداءها الذين لم يرحلوا عن وجداننا.
وأضاف الوزير الصالح: إننا لسنا هنا لنعيد فتح الجرح، بل لنقول: إن الجرح صار هوية، وإن الدم صار عهداً، وإن الصرخة التي خرجت من صدور أطفال داريا لم تنطفئ، مؤكداً أن داريا أصبحت مدينة في الضمير وبوابة خلاص، والأمانة التي نقسم أن لا تذهب تضحياتها سدى، وأن تبقى سوريا وطناً يليق بدماء رجالها ونسائها وأطفالها.
وأكد في تصريحه لصحيفة الثورة متابعة المؤتمر بكل جدية لمحاكمة المجرمين وانعكاسه على الشأن الثقافي، لتوثيق المجازر من خلال الورشات الأدبية “القصة، الرواية، الشعر” والفنية، وإطلاق مبادرات ثقافية تشجيعاً لتوثيق المجازر، وخلق أمل من الألم وحياة وشاهد لا يموت.
شواهد حية على حاضر أليم
بعدها عرض في المؤتمر بروموهات قصيرة توثّق أبرز المجازر التي ارتكبها النظام المخلوع بحق المدنيين والأبرياء، وعمليات القصف على أحياء المدينة، والتدمير المنهجي لمبانيها وتهجير سكانها، إضافة إلى عرض شهادات حية قدمها شهود عيان من أبناء داريا آنذاك طوال أربعة أعوام، وتهجير نحو 100 ألف من سكانها، والتي وصفتها منظمات حقوقية سورية ودولية بأنها جريمة حرب.
وفقاً لما ذكر في شهادته إسماعيل أنصاري، مصوراً الدمار تخليداً لذكرى الشهداء، وموضحاً في كلمته للحضور ضرورة الاعتراف بمعاناة ذوي الشهداء والجرحى، والتعلم من دروس الماضي، والحفاظ على الذاكرة الجماعية في بناء مستقبل أفضل، مقترحاً بالتخليد المادي للمجازر، كوضع نصب تذكارية وأبنية وحدائق تبقى شاهدة.
وفي عرض تقديمي تناول الكاتب والباحث السياسي مهند الكاطع المجازر المنسية في الجزيرة الفراتية، بين الفرات ودجلة، وفي الرقة والحسكة ودير الزور وجزء من حلب، مؤكداً بالصورة والرقم مجازر عامودا “مجزرة الأغيبش”، مجزرة “تل رباك”، “حي رغويران” ضد الأكراد، مجازر الحاجية، وتل خليل، والمتينية وغيرها.
ومن أحد الناجين من المجازر، مدير منطقة داريا جميل مدور، الذي قال في تصريحه لـ”الثورة”: إن المجازر لا توصف، لأننا عشناها بكل لحظاتها، كنت مصاباً ولم أمت، ولا يزال الجرح يؤلمني في الصميم، ولا أريد لأي إنسان أن يمر بما مررنا به في داريا، إننا نعلن اليوم انتصارنا وفجر سوريا الجديد التي تشهد أن الحولة، وداريا، والقبير، والترسيمة، وإدلب، ومن قبل حماة، وحلب، ليست مشاهد من الماضي بل شواهد حية على حاضر لم ينته بعد.
وعبر فيديو بث مباشر عبر الأقمار الصناعية، ألقى الطبيب الشاهد على مجزرة الكيماوي في منطقة “زملكا” خليل الأسمر شهادته، موضحاً تداعيات المجازر وانعكاسها على القطاع الصحي، والعجز في تلبية الأدوية لكثرة الحالات المتسممة، وخاصة في الغوطة الشرقية وكثرة حالات التسمم بمادة الفوسفور العضوي التي لا تخرج بسهولة من جسد المصاب، وإن خرجت عن طريق التعرق تعود من جديد، لذا كان هناك الكثير من الحالات التي تبقى أياماً وأسابيعاً للعلاج.
العدالة حق لا يسقط
وفي تصريحه لصحيفة الثورة بين مدير مديريات الثقافة أنس الدغيم، أنه من واجبنا تعزيز ثقافة التأريخ، بالكلمة والقصيدة والنحت واللوحة التشكيلية وأن نسمي كل شارع من الشوارع باسم شهيد، كما نحتفي بالمولود نحتفي بالمفقود.. الحاضر الغائب بيننا، هي عدالة روحية لا تقل قيمة عن العدالة القانونية، فالحق لا يسقط بالتقادم، علينا كشف الحقيقة، وتوثيقها، لنعيد كتابة التاريخ وعدم طمس الأدلة، لنحاسب المجرمين انتصاراً للضحايا، حماية للمستقبل وضمانة ألا تتحول الإبادة إلى أداة سياسية مشروعة.
المنسق في اللجنة التنظيمية حذيفة الشربجي بين أن مؤتمر مجازر سوريا ذاكرة لا تموت يتابع نشاطه طوال اليوم، بخمس مداخلات قصيرة من نشطاء وممثلين عن مشاريع الذاكرة، أمام الوزراء والحضور الرسمي، ومحاضرة مشروع الذاكرة السورية، ومشروع قسطاس، ومحاضرة الشبكة السورية لحقوق الإنسان.
ويستمر المؤتمر في برنامجه غداً الجمعة بالقيام بزيارة مواقع مجازر داريا، زملكا، والمعضمية، بالوقوف عند المقابر وقراءة الفاتحة للشهداء، والاستماع لشهادات قصيرة من بعض الأهالي الناجين، والنقاش مفتوح حول توصيات المؤتمر، وصياغة ورقة رسمية لتقديمها للحكومة حول ضرورة حفظ الذاكرة ومنع تغييب السردية، مؤكداً أن الجولة الميدانية جزء أساسي لإعطاء المؤتمر بعداً واقعياً وارتباطاً بالأرض.