الثورة – حسين روماني:
في زقاق ضيّق من حيّ المزة القديمة، تتسلّل الكاميرا إلى “حارة الجندي”، حيث يجتمع الغبار والرطوبة، وتختنق البيوت المتلاصقة بظلّ أبراج ماروتا سيتي الزجاجية، هنا، في هذا التناقض المكاني الصارخ بين طبقة مسحوقة ومحيطها المترف، يصوّر المخرج محمد عبد العزيز مسلسله الجديد “عيلة الملك”، في عودة جريئة إلى الدراما الاجتماعية ذات البعد السياسي، ضمن مقاربة تتجاوز الحكاية إلى قراءة مكثّفة في تركيبة المجتمع السوري قبل الثورة وخلالها وبعدها.
تواجدت “الثورة” في موقع التصوير وتحدثت إلى مخرج العمل محمد عبد العزيز، والذي يصفه أنه “اجتماعي ذو صبغة سياسية”، لكنه في الواقع أقرب إلى مشروع تفكيك رمزي لبنية السلطة والمال والطبقات في سوريا، تدور القصة حول عائلة ذات نفوذ اقتصادي وسياسي واسع، يتعرّض رأس الهرم فيها للتحقيق من أحد فروع الأمن المعنيّة بمتابعة رجال الأعمال، يختفي فجأة فتنفجر الخلافات بين الأبناء الذين يتوزّعون بين ضفّتين اجتماعيتين متباينتين أحدهما في بيئة دمشق الثرية، والآخر في قلب العشوائيات، ومن هذا الانقسام تنشأ الحكاية الكبرى عن الصراع الطبقي والسياسي، الذي يوازي في رمزيّته الصراع السوري ذاته”.
يقول المخرج عبد العزيز: العمل ينتهي بيوم سقوط النظام البائد، وهو محاولة لقراءة اجتماعية لتركيبة المجتمع ما قبل السقوط”، لكن “السقوط” هنا ليس مجرد نهاية درامية، بل هو مجاز لانهيار المنظومة التي غذّت الفساد والتفاوت، من العهود المملوكية إلى البعث، مروراً بالانتداب والانقلابات، وفي كل هذه المراحل، ظلّ “حزام الفقر” يطوّق محافظات سوريا وعلى رأسها دمشق كقنبلة موقوتة وجمرة تحت الرماد.
المال.. الفساد.. والحب في قلب دمشق
في كواليس تصوير مسلسل “عيلة الملك”، بدت حارة الجندي في منطقة المزة القديمة أشبه بمختبرٍ اجتماعيّ مصغّر، إذ تتقاطع مصائر الشخصيات، كما تتقاطع الأزقة الضيقة العشوائية التي تملأ المكان، انعكست على البنية الدرامية نفسها، لتصوغ عالماً يعجّ بالتناقضات بين السلطة والهامش، بين الغنى والفقر.
وقال عبد العزيز: في أحد المشاهد التي كنا شهوداً على تصويرها، وقف عدنان “غزوان الصفدي” رجل النظام البائد و”عوايني الحارة” في مواجهة مازن “لجين إسماعيل” صاحب المال والمتسلط، فيما تتحرّك سلوى “ديمة بياعة”، ونور “سيرين هاجري” في فضاءٍ مشحون بالعواطف والرهانات، هنا، تتكثّف رموز المسلسل المال الذي يشتري الولاءات، الفساد الذي يلتهم القيم، والحب الذي يحاول النجاة وسط هذا الخراب، مشاهد قصيرة، لكنها كفيلة بكشف روح العمل، دراما واقعية تتسلل من الحارات وتنطلق إلى طبقة الثراء والمال والفساد جوهر السلطة نفسها، العلاقات هنا لا تُبنى على الحب أو الكراهية فحسب، بل على تحالفات المصالح والذاكرة الطبقية، فكل مشهد يعكس توازنات بين من يملك المال ومن يملك القوة ومن لا يملك سوى البقاء.
وأوضح أن الحب في هذا العمل ليس ملاذاً، بل مساحة اختبار بين القيم والمصالح، فيما تتحوّل “الحارة” إلى مسرحٍ رمزيّ لبلدٍ يعيش ازدواجيته الكبرى سلطة تُراقب وتُعاقب، وشعب يبحث عن خلاصٍ وسط العتمة.
حزام الفقر الذي يروي الحكاية
يصف المخرج عبد العزيز البيئة التي تدور فيها الأحداث بأنها ليست مجرد خلفية تصوير، بل جوهر العمل وروحه، موضحاً أن الجزء الأكبر من المسلسل يجري في بيئة شعبية، بيئة لم تُرصد درامياً منذ زمن طويل، وحاولنا أن نقترب منها بواقعية صارمة.
وأوضح أن اختيار حي حارة الجندي في المزة القديمة لم يكن مصادفة.. هذا الحي الشعبي يقع في قلب تناقضات دمشق الحديثة، فهو محوط بأحياء الأثرياء في المزة، وبمنطقة الفيلات، والأوتوستراد، ومقر السفارة الإيرانية، ومشروع ماروتا سيتي الفاخر، وفيما يعلو البذخ من حوله، تبقى الحارة “خالية من مقومات الحياة”، كما يصفها المخرج، “تعيش في فقرٍ مدقع تحت حصار غير مرئيّ من الامتياز الطبقي”.
يرى المخرج عبد العزيز في هذا المكان رمزاً مكثّفاً لتاريخٍ طويل من التهميش الذي صنع طبقات مسحوقة عبر العصور، فالحارة الشعبية ليست مجرد موقع تصوير، بل امتدادٌ “لحزام الفقر” الذي أحاط بالعاصمة لعقود، وشكّل شرارةً كامنةً في المجتمع السوري قبل عام 2011.
يربط المخرج هذا الامتداد الزمني من العهد المملوكي إلى العثماني، مروراً بالانتداب الفرنسي، ثم الانقلابات السياسية والاستقلال، وصولاً إلى حكم البعث والأسدين البائدين، ليؤكد أن إهمال هذه الطبقات ظلّ أحد ألغام التاريخ السوري المستترة، القادرة في أي لحظة على الانفجار من جديد.
وبين أنه بهذه الرؤية، تتحول البيئة الشعبية في “عيلة الملك” من فضاءٍ للحدث إلى بنية دلالية تعكس علاقة المجتمع بالسلطة والمال، وتكشف عن عمق الهوة التي تفصل الطبقات السورية.
انسحاباتٌ فنية وعوداتٌ لافتة
رغم ما رافق الأيام الأولى لتصوير “عيلة الملك” من انسحاباتٍ واستبدالاتٍ في طاقم الممثلين، فإن المخرج محمد عبد العزيز لا يرى في ذلك سبباً للارتباك أو مؤشراً على خلافات داخلية، “لم تكن الانسحابات مرتبطة بالشكل الفني أو باختلافات فكرية بيني وبين الفنانين “يقول عبد العزيز، موضحاً أن “الأمر اقتصر على تباينات مالية بين بعض الممثلين والجهة المنتجة، وهي حالة طبيعية ترافق أي عمل درامي محلي أو عربي أو حتى عالمي”، هذه المقاربة الهادئة تكشف عن إدراكٍ احترافي لإدارة المشاريع الفنية، إذ لا تتحول التحديات الإنتاجية إلى أزماتٍ فنية.
وفي المقابل، يرى عبد العزيز أن عودة لينا دياب، وديمة بياعة إلى الدراما السورية من خلال هذا المسلسل تحمل قيمةً خاصة، فكلتاهما تمثلان وجهاً من “علامات الدراما السورية” اللاتي غبن عن الشاشة طويلاً.
يقول المخرج: “العمل يوفّر جسراً بين الأجيال ويعيد ممثلاتٍ يمتلكن خبرة مكتنزة وتجربة غنية، ليظهرن بأفضل شكل ممكن”، ومن خلال عدسة عبد العزيز، تتحوّل العودة إلى فعل رمزي، يعيد التوازن بين الذاكرة الفنية والبحث عن تجديد الصورة السورية على الشاشة.
رقابة أكثر انفتاحاً
يرى المخرج محمد عبد العزيز أن تعامل الرقابة الحالية مختلف عن التجارب السابقة التي خاضها في عهد النظام البائد، ويقول: “في الماضي، كانت العلاقة مع الرقابة أشبه بجدالٍ دائم حول المضامين والعبارات، أما اليوم فالأمر أكثر مرونة”.. فحين عُرض نص المسلسل على لجنة الرقابة، اقتصر الأمر على ملاحظات لغوية بسيطة لا تمسّ جوهر العمل، مثل طلب تعديل عبارة “مطبل بالدنيا مزمر بالآخرة”، يتجه بحديثه نحو رقابة العرض التلفزيوني ويأمل أن يمتد هذا الانفتاح إليها، ويعتبرها “الأهم والأكثر حساسية”.
أما عن زيارة لجنة صناعة الدراما، برئاسة الأستاذ مروان الحسين إلى موقع التصوير، فيصفها عبد العزيز بأنها كانت “زيارة مثمرة ومليئة بالزخم”، فقد لمس المخرج تعاوناً “لم يشهده سابقاً”، مشيراً إلى أن اللجنة تتابع عن قرب وتقدّم تسهيلات وخدمات ميدانية تسهّل سير العمل.
ويضيف: “استجابتهم كانت سريعة ومرنة، ومبادراتهم اتسمت بالإيجابية والاحترام”، هذه الروح المؤسسية الجديدة، كما يراها عبد العزيز، تتيح للفنانين العمل بأريحية أكبر وتفتح الباب أمام مرحلة أكثر تشاركية بين الرقابة والإنتاج، قائمة على الثقة لا على المنع.
نحو الشاشة
مع انتهاء التصوير في حارة الجندي بالمزة القديمة، وقبلها التجارة ومشروع دمر، إضافة إلى مشاهد ستكون في فرع فلسطين، ومنطقة يعفور، يواصل فريق العمل خطواته بوتيرة منتظمة، ليدخل العمليات الفنية في وقت قريب، المسلسل كان نتاج ورشة درامية تضم: شادي كيوان، معن سقباني، ميادة إبراهيم، وتحت إشراف المخرج محمد عبد العزيز، ووقف خلف إنتاجه شركتا قبنض ميديا، وأفاميا بإشراف الأستاذ فراس الجاجة، وهذه المرحلة الأخيرة تمهد الطريق أمام الجمهور لمتابعة تجربة درامية متكاملة تجمع بين الواقعية الصارمة والتحليل الاجتماعي العميق، لتصبح إضافة نوعية للدراما السورية المعاصرة.