الثورة – محمد الحريري :
تولد أكلات من رحم الأرض، تماماً كأهلها، تحمل ملامحهم وتروي حكاياتهم، وفي تاريخ الجنوب السوري وتحديداً في درعا، يتربع “المليحي” على رأس الأطباق الشعبية كذاكرة كاملة تقدم في منسف، فتشهد رائحة السمن العربي على سخاء بيئة لم تبخل يوماً بما لديها، فتجود به.

عندما تجلس الحاجة “فاطمة الرشيد” المعروفة بأم راكان، تدرك أن المليحي ليس وصفة تسرد مكوناتها، وإنما قصة تروى، ترفع طرف منديلها فوق رأسها وتبتسم: “يا بني، هذه الأكلة كانت النفس في البيت، فإذا لم تُطبخ يوم الجمعة واجتمعت العائلة عليها، تشعر أن هناك نقصاً، هي شيء أساسي عندنا، كالخبز والماء”، تتابع حديثها بلهجة يغلب عليها الحنين: “حتى عندما يأتينا الضيف لم يكن هناك أكلة توازي المليحي في تقديرها، وفي الأعراس أيضاً، كنا نمرس “الكِثي”، أي اللبنة المجففة، حتى يصبح مرقة، ونطبخ اللحم بها، ونجهز المنسف ونغرقه بالسمن العربي والكبة المقلية”.
أم راكان تتحدث عن رمزية استخدام الكبة في المنسف، فإذا أرادو تكريم الضيف وتقديره، أضافوها بكثرة.
للمليحي طقوس خاصة يسعى أبناء درعا للحفاظ عليها، بداية بالمنسف، ورغيف الخبز “الشراك” الذي يفرد في القاع، ليسكب فوقه البرغل المطبوخ ثم ترتب قطع اللحمة بعناية، لكن السحر الحقيقي يكمن في اللمسات الأخيرة، فانسكاب السمن البلدي الساخن وصوته وهو يغمر الطبق، ثم تتويجه بالكبة المقلية، طقوس لا يكتمل المنسف إلا بها، هي محبة واحترام يقدمان في أكلة.