الثورة – رنا بدري سلوم:
” قد يكون والدي واحداً منهم” بهذه الكلمات بدأ دكتور أدب النقد العربي البراء خالد هلال حكايته مع معتقلات النظام المخلوع، التي حدثنا عنها وفي قلبه لوعة الفقد لوالده. “أنحدر من منطقة القطيفة في ريف دمشق التي تضم مقبرة جماعية ضخمة، فإن الأطباء والمثقفين الذين أعدموا في سجون النظام المخلوع آنذاك، خلفوا فراغاً لم يتم تداركه حتى الآن، ولا تزال عدة مستشفيات خاوية على عروشها يديرها ممرضون وموظفون لا أطباء، ولا يزال كثير من أهالي الضحايا يعانون من حرقة الفقد، ومن البحث المستمر عن جثة، عن معلومة لذويهم، وعن زهرة تزرع في تربة قبر”.

حين نصب النظام المخلوع حفراً جماعية في محاولة “إخفاء الجثث ومسح الجريمة”، خلق للضحايا قبراً لا يُعرف له عنوان ولا مصير، وهو ما ترك أثرًا نفسيا واسِعًا للأهل الذين لا يعرفون مصير أبنائهم، ولا مكان دفنهم، ولا يجدون سبيلاً إلى قبر وشاهدة يتلون عليها الفاتحة ويرتلون الدعوات، وهذا يضعف شعور الانتماء للأجيال التي لم تشهد الذبح المباشر، ولكن تلاقفتها الفاجعة وخلفت في صدرها ندوباً سوداء.
رواية الظلم
” إن إبقاء هذه القبور من دون شاهدة تؤسس مشروعاً لتلاشي رواية المظلوم، تكرس لعنف متمدد وتطبع الجريمة وتفتح أفق تكرارها مجدداً” وفقا لابن مدينة القطيفة الدكتور هلال، واصفاً مدينة شهدت المقابر الجماعية التي باتت تمثل اليوم ثقافة الغياب والذاكرة في سوريا بعد التحرير، الحرية حيث تستقر في عمق الجغرافيا السورية، بين الحواجز والجبال وحتى وسط المدن، فالمقابر الجماعية أصبحت جزءًا لا يُمحى من المشهد التاريخي والنفسي للمجتمع.
خصماً للهوية
“عبر عقد ونصف تقريباً وربما قبل ذلك، شهدت سوريا حملات اعتقال واسعة، وتعذيبًا منهجيًا، وإخفاءً قسريًّا لمئات الآلاف من السوريين، تحوّلت الزنزانة إلى مركز تصفية، والرصاص إلى طريقة لفرض الخوف، والمقبرة الجماعية إلى وسيلة لإلحاق الغياب والفراغ بالهوية السورية وانقطعت أجيال عن مصائر آبائها” بحسب هلال مبيناً أن الدولة التي ترتكب إبادة جماعية، وتدفن ضحاياها في خفاء تمارس أفعال عصابات تقف “خصماً للهوية” وتؤسس لصدمة ثقافية تضم في رفاتها جثثاً لأدباء وعلماء ومفكرين وقادة رأي يصعب تعويضهم في المدى المنظور. متابعاً القول: إن توثيق المقابر الجماعية، وكذلك العادات الثقافية والدينية التي تُحيي ذكرى الضحايا – سواء من خلال زيارة القبور وترتيل القرآن والدعوات للمفقودين وقصائد التأبين فعل مقاومة للنسيان وحماية لهذه المواقع لتظل أدلة على جرائم نظام الأسد المخلوع ضد الإنسانية” وإن هُدّمت أو نُسيت.

سردية ثقافية تكسر الصمت
تشكل المقابر الجماعية جزءًا من تاريخ المجتمع السوري المعاصر، وعن كيف تؤثر على سردية الهوية الوطنية والثقافية للأجيال القادمة؟ يجيب هلال لا بد من إعادة الاعتبار للضحايا لا من خلال الحفر والتنقيب، فالعظام التي رمت لا تعود للحياة بل من خلال بناء سردية جديدة تمحو الصورة السوداء وتشويه السمعة التي طالت أيام نظام البعث، لنعمل نحن المثقفين والشعراء وكل أبناء المجتمع السوري على إشراك الأجيال الجديدة في حكايتنا الحقيقية الجديدة، من خلال الاستفادة منها ثقافيًا، ليس بمعنى تبريرها أو تمجيدها، بل بمعنى تحويل التجربة القاسية إلى معرفة وذاكرة ووعي يمنع تكرارها، ومن خلال توثيق شهادات المعتقلين في كتب وأفلام وأعمال فنية، وإنشاء أرشيفات رقمية توثق القصص، وتمنع طمس الحقائق. إضافة إلى تضمين الذاكرة في المناهج أو الفضاء العام كجزء من تاريخ سوريا الجديدة، ولا ننسى الإبداع الفني والأدبي، فالكثير من التجارب تحوّلت إلى روايات وأفلام ووثائقيات، وشعر ومسرحيات وتقارير صحافية.
إن هذه السردية التي تحتاج منا إلى الوقت والجهد والوفاء والانتماء إلى أرض بذل أبناؤها الغالي والنفيس لأجلها، سهم في كسر الصمت، وبناء التعاطف، وإيضاح ما يجرى خلف الجدران، وتحويل الألم إلى قوة اجتماعية، فالتجارب المؤلمة في المعتقلات تصبح مصدراً لفهم بنية القمع، وتعزيز قيم الحرية والكرامة، وبناء خطاب يحفّز المجتمع على الدفاع عن حقوقه. مشيراً هلال إلى تجارب دول أخرى تحوّلت المعتقلات السابقة إلى: مراكز توثيق وذاكرة، ومتحف لضحايا التعذيب، ومساحات للنقاش العام وورش تعليمية حول حقوق الإنسان، نعم ونحن في سوريا سنحول رموز الخوف إلى رموز للمعرفة والوعي الذي دفع غاليا جداً معنى الحرية.