الثورة _ بسام القوتلي :
يُحكى أن قرية عاش أهلها في خوف دائم من الأعداء، فبنت كل عائلة سوراً حول بيتها لتحمي نفسها، انشغل السكان سنوات طويلة في بناء هذه الأسوار وتدعيمها، حتى بات جمع الأحجار هاجسهم الأكبر.
كانوا يتسللون ليلاً بعيداً عن أعين الآخرين لجمع الأحجار، ويختبئون نهاراً، وحين نفدت الأحجار، لجؤوا إلى تجار من قرى بعيدة، ودفعوا لهم أثماناً باهظة.
لكن هذا الانشغال كلّفهم الكثير؛ لم يعودوا قادرين على زرع أراضيهم، أو تأمين الطعام لحيواناتهم، فباعوا أدوات الزراعة والأبقار ليشتروا الأحجار ويشبعوا جوعهم، ومع مرور الوقت، أوجدوا حلولاً جديدة لمشكلة نقص الحجارة، مثل اقتلاع حجارة من سقوف بيوتهم، أو من جدران أبارهم.
أحد أقويائهم جاء بفكرة اعتبرها البعض ثورية، وهي أن يسرق الأقوياء الحجارة من أسوار الضعفاء.
ارتفعت الأسوار حتى حجبت الشمس، فماتت حدائق البيوت، وانتشر الجوع والمرض، عندها خرج حكيم بينهم بفكرة جريئة: “لماذا لا نتصالح ونبني سوراً واحداً كبيراً يحيط بالقرية وأراضيها، يحمي الجميع، ويسمح لنا بزراعة الأرض، ويدخل الشمس إلى بيوتنا؟، ” سأله شاب: “ومن أين نأتي بالحجارة؟” أجاب الحكيم: “نفكك أسوارنا الصغيرة ونستخدم حجارتها.
” قال الشاب: “ومن يضمن لي ألّا يهاجمني أحد بعد أن أفكك سور بيتي؟”، رد الحكيم: “نبني السور تدريجياً، نأخذ عدداً متساوياً من الحجارة من كل بيت في الوقت نفسه، فلا يسبق أحد الآخر حتى يكتمل سور القرية”.
وهكذا، بنت القرية سوراً قوياً حولها، وأعادت بناء بيوتها وحظائرها بما فاض من الحجارة، وعادت الشمس تدخل عبر نوافذ بيوتهم.
من الأسوار الرمزية إلى التحدي الحقيقي
في الثورات والحروب، يرتفع الإحساس بالخطر، فيجتمع الناس خلف أسوار رمزية، أحياناً حول قضاياهم، وغالباً حول هوياتهم الإثنية والطائفية، هذه الأسوار تمنح شعوراً بالأمان، وتسهّل الحشد ضد العدو المشترك.
حدث ذلك في سوريا، وفي البوسنة، وفي رواندا، وفي أوكرانيا، وفي كل مكان مزقته الحروب.
اليوم، بعد التحرير، نجد أنفسنا أمام سوريا مدمرة اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، تحدي البناء مختلف عن تحدي الثورة؛ فهو يتطلب حشد الطاقات جميعاً بلا استثناء، وإنهاء المعارك الداخلية قدر الإمكان، وتحويل ما تبقى منها من ساحات القتال إلى قاعات البرلمان، إذ يفتح المجال أمام التنافس الحر بين الأفكار والرؤى.
التحول صعب ومربك، فالتخلص من العادات التي اكتسبناها خلال سنوات طويلة من محاولات البقاء في وجه ظروف حياة مستحيلة ليس سهلاً، ولكن رغبة الحياة يجب أن تنتصر.
دعوة إلى الشجاعة
اليوم، أمامنا خياران لا ثالث لهما: إما أن نبقى خلف أسوارنا الصغيرة، نحجب الشمس عن مستقبلنا، ونستهلك ما تبقى من طاقتنا في الخوف والانعزال؛ أو أن نمتلك الشجاعة لنفكك هذه الأسوار، ونبني معاً سوراً واحداً يحمي الجميع، ويعيد الحياة إلى أرضنا وبيوتنا.
سوريا لن تُبنى بالحجارة وحدها، بل بالعقول المتفتحة، وبالثقة المتبادلة، وبالإرادة التي تضع المصلحة الوطنية المشتركة فوق كل اعتبار.
فالسوريون يمتلكون أدوات صناعة المستقبل، هم معروفون بعلمهم وطاقاتهم وجدهم في كل أنحاء العالم، فلنبدأ الآن ببناء سورنا المشترك وتهديم أسوارنا الصغيرة.