الثورة – سهى درويش:
يختزن الساحل السوري موروثاً شعبياً غنياً بتنوعه وتاريخه العريق الممزوج بالحضارات التي تعاقبت على المنطقة والممزوجة بتأثيرات البحر والجبل.
وهذا الموروث ليس مجرد ذكريات ماضية، بل هوية تتناقلها الأجيال عبر العصور لتبقى متجذرة في الحياة اليومية للمدينة، ويبذلون جهوداً كبيرة لإحيائها وحمايتها، ليس فقط كجزء من تراثهم، بل كجزء من هوية أجيالهم القادمة لتستمر في الوجدان الجمعي للمدينة.
ومن أجمل ما تختزنه الذاكرة حكايات مواسم القطاف والحصاد التي رواها الأجداد، وتناقلها الأحفاد، وما كانوا يستخدمونه من معدات بدائية في ذاك الزمان.. ولمعرفة بعض من موروث الساحل المخزون في تراثنا، حدثنا مدير آثار أوغاريت الدكتور غسان القيم عن عظمة هذا التراث الذي يحمل أبعاداً ثقافية واجتماعية وإنسانية.
“الباطوس” ذاكرة الحجر
حجر “الباطوس”، الآلة اليدوية التي استبدلت بالآلية، لكنه لا يزال حاضراً بذاكرتنا.. ولفت إلى أن “الباطوس” ذاكرة الحجر ورائحة الزيتون وحبات القمح المقشور، ففي قلب كل قرية من قرى ريف الساحل السوري كان هناك مكان لا تخطئه العين ولا يغيب عن ذاكرة من عاش طفولته بين تلك التلال الخضراء إنه “الباطوس”.
وأوضح الدكتور القيم أنه ليس مجرد قطعة حجر، بل هو شاهدٌ صامت على مواسم الكدح، ومسرحٌ مفتوح لحكايات الجدّات وضحكات الأطفال وعرق الفلاحين، مضيفاً: إن الباطوس كما يعرفه أهل الساحل هو حجر دائري عريض مصقولٌ بفعل الزمن وسواعد الرجال توضع فوقه كميات من الزيتون أو القمح ليُفرد عليها دولاب حجري ثقيل يُدار، إما يدوياً وإما بوساطة حيوان.
وبين أنه في موسم القطاف كانت العائلات تتجمّع حول “الباطوس” تُفرغ سلال الزيتون الأسود اللامع فوق سطحه، وتبدأ عملية الرصّ، إذ يُعصر الزيتون شيئاً فشيئاً وتُستخلص “الزَفْرة” الأولى قبل نقله إلى المعصرة، كانت العملية تُشكّل طقساً قروياً بامتياز فيه مشاركة وتعاون، وكان يُعدّ خطوة مهمة قبل الوصول إلى الذهب الأخضر زيت الزيتون الذي يُخزن في الجرار الفخارية ويُعدّ فخر كل بيت.
ولم يقتصر دور “الباطوس” على الزيتون فحسب، ففي مواسم الحصاد كان يُستخدم لتقشير القمح أو ما يُعرف محلياً بـ”الدرُس”، وكانت السنابل تُنثر على سطحه ويدور عليه الحجر الثقيل حتى تتفكك الحبوب عن قشورها، في مشهد يترافق مع غناء النسوة وأصوات الأولاد المتجمعين حول أمهاتهم.
وقال الدكتور القيم: صحيح أن المعاصر الحديثة قد أخذت مكان “الباطوس” اليوم وأن آلات الدّرس قد غزت الحقول، لكنّه مازال محفوراً في الذاكرة تماماً كما حفر هو على مر السنين أثره في أرض القرية، وهو أكثر من أداة، فهو قطعة من روح الأرض فصلٌ من حكاية المكان وصوتٌ من زمنٍ كانت فيه الحياة أبسط لكنها أعمق معنى وأغزر دفئاً.
الجاروشة ذاكرة البيوت القديمة
ومن الزمن العتيق قال الدكتور القيم: إن البيوت الطينية القديمة تختزن في ذاكرتها الجـــاروشــة أو الرحى أداة القمح والحبوب، والتي لم تكن مجرد حجرين صامتين، بل كانت قلب البيت الفلاحي وجرس الحياة اليومي الذي لا يهدأ.
وأضاف: إنها أداة حجرية بدائية، لكنها عريقة تعود إلى أزمنة ما قبل الطواحين والرحى الكبيرة، وكانت مخصصة لجرش القمح والحبوب يدوياً لتتحول إلى طحين أو برغل أو لتجهّز للخبز والطعام.
وأوضح الدكتور القيم أن الجاروشة تتألف عادة من حجرين دائريين من البازلت أو الحجر الكلسي الصلب، والحجر السفلي يكون ثابتاً ومستقراً، في وسطه نتوء بسيط أو ثقب لتثبيت المحور، أما الحجر العلوي يكون متحركاً مثقوباً من الوسط يُسكب منه القمح ليقع بين الحجرين ثم يُدار بواسطة مقبض خشبي مثبت على جانب الحجر، حين تبدأ اليد بإدارة الحجر العلوي تتفتت الحبوب وتتحول إلى دقيق أو مجروش.
وأضاف: كانت الجاروشة أو الرحى جزءاً أساسياً من كل بيت فلاحي، ففي الصباحات تجلس النساء حولها يُدرنها بأيدٍ صبورة ويغنين أغاني فلكلورية خفيفة لتخفيف التعب، والأطفال كانوا يلتفون حولها، يراقبون الحبوب وهي تنزل شيئاً فشيئاً ويتسابقون لمساعدة أمهاتهم، وكان لصوتها إيقاع مألوف في القرى، يعلن عن حياة لا تهدأ، وعن خبز يُخبز وبرغل يُعدّ، وحياة تدور مع دورانها.
ولفت الدكتور القيم إلى أن الجاروشة لم تكن مجرد أداة، بل كانت رمزاً لـلاكتفاء الذاتي الأسري، وكانت الأمثال الشعبية تذكرها أحياناً كناية عن العمل المتواصل والشقاء الجميل، ويقال: إن بعض البيوت القديمة كانت تحفظ جاروشة الأمهات كذكرى عزيزة تزين بها صدر الدار، وكأنها قطعة أثرية من الروح، ولكن مع دخول الطواحين المائية والهوائية ثم المطاحن الحديثة، تراجع دور الجاروشة، لكنها بقيت في الذاكرة الشعبية رمزاً لأيام البساطة والاعتماد على الجهد اليدوي.
ونوّه بأن الكثير من القرى السورية والشرقية ما زالت تحتفظ بها كقطعة تراثية، وبعض المتاحف تعرضها كأداة حملت سرّ القمح الأول.. وهكذا تبقى الجاروشة أكثر من مجرد حجرين، إنها شاهد حيّ على تاريخ الحبوب ورمز لصبر أمهاتنا ورفيقة البيوت الريفية التي كانت تدور مع دوران الحياة نفسها.
المعرجلينة.. أداة البناة الأوائل
من يتابع تراث الأجداد يجد ابتكارات كانت شاهداً على الفكر والإتقان والحرفية في العمل، وكان للأجداد أدوات بنائهم الخاصة، ومنها: “المعرجلينة”، التي وصفها الدكتور القيم، أنها أداة تراثية عريقة أسطوانية الشكل، مصنوعة من الحجر الثقيل، وتُستخدم منذ القدم في دحل ورصّ أسطح البيوت الطينية لتمنع تسرب مياه المطر وتحفظ دفء المأوى.
وأضاف: إن الأيدي الخبيرة كانت تسير بها جيئة وذهاباً فوق السطح، تُدحرجها بحركات موزونة ودقيقة حتى تتماسك طبقات الطين، ويُصبح السقف صلداً لا يخون ساكنيه في الشتاء.
وتابع بالقول: إن “المعرجلينة” كانت رمزاً للحرص والدقة، وصورة من صور التكاتف المجتمعي، إذ كان الجيران يجتمعون في مواسم البناء، ويتعاونون على دحل السطوح باستخدامها في جوّ تسوده المحبة والعمل الجماعي.
وختم الدكتور القيم بالقول: اليوم ورغم تغيّر أدوات البناء، لا تزال “المعرجلينة” تقف شاهداً صامتاً على فنّ العمارة الطينية محفوظة في الذاكرة الشعبية تُعرض في المتاحف أو تزيّن الزوايا التراثية لتُخبر الأجيال القادمة عن حكاية الطين والمطر والبُناة الأوائل.