الثورة أون لاين – د. مجدي صالح:
من غير المقبول عولمة المجتمعات بثقافات معينة ومحددة سلفاً، وإسقاط الهوية وإفراغ التاريخ من محتواه، فمن المعلوم أنَّ لكلِّ مجتمع هوية تميزه وتعرف به، ومادامت العولمة تطرق أبوابنا، بتنوعاتٍ تخالف وجودنا دون أن يكون لنا أي حقٍّ في حرية اختيار ما يضخ إلى عقولنا، فهل يمكننا طرق المجتمعات الأخرى وعولمة ثقافتنا؟!
صدقاً، لن يقبلوا ذلك، بل من غير المسموح تقنياً. نحن نستقبل ولا نرسل. هذه هي الحقيقة. الهوية إرث تاريخي ومكسب إنساني عام للجميع، ولا ينبغي بأي حالٍ من الأحوال طمسها واستبدالها، ولا حتى تحريف مكوناتها بحجة العولمة ووجوبها كضرورة عصرية.
في صحيح الواقع المبين، ما يتم ضخّه لنا ثقافياً من خلال عولمة العقول، هو لنا حصراً، ويراد منه أن نبقى في القاع دون غيرنا، فصانع العولمة لديه ضوابط ولا يسمح بتمرير ما يهدم مجتمعه، ولا يسمح بمنح تصاريحِ بثٍّ فضائي دون قواعد وضوابط. ذلك البعيد لا يسمح لقناة فضائية تبث لمجتمعه السموم وتحرض على القتل والذبح وتتبناه، ولا تتجرأ قناة هناك على بثِّ سمومٍ وتمطر ذاك المجتمع بالهلاك الفضائي.
القنوات الفضائية سيئة الغرض والمنبت، هي لنا وحدنا دون غيرنا مع صكِّ شرعية العمل، وبغطاء الحرية والرأي الذي هو في الواقع، رأي أحادي لا يقبل الاختلاف، وإن حدث الأخير فالسكين هي الفيصل.
لقد ظلّت مجتمعاتنا، ولسنوات عديدة تحت الصدمة التي سببها، ما أحدثته قنوات فضائية بعينها كانت مصدر ثقة معرفية وإخبارية وثقافية ودينية وفنية، وكانت تلبس ثوب حديث وقناع رديف، وإذا بالصاعقة ضربت العقول ومزقت محاوره ومركزيته وعكست كل المفاهيم. لم نكن لنستفيق من هول الصدمة والفاجعة حتى نُصعق للمرة الثانية أمام القنوات الشخصية في اليوتيوب والبث المباشر، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ولم يعد الوقت كافياً للتحذيراتِ والفرز وأيضاً، التحذيرات للمرة الألف بعد المئة، فأينما يولي المرء وجهه يقابل قناة أو محطة ملوثة تزود العقول بالتطرف بكافة أشكاله وألوانه، وبصورة تزور الرؤية أيضاً.
في الوقت الذي يعيشه هذا العالم من عصرنة وحرية، القانون هو سيد الموقف والسائد بشكل مطلق في الدول القوية، وكذلك الوعي المجتمعي الذي يحرس القانون حتى لا يوجد مخترق له أو لتماسك المجتمع، فالمسؤولية عامة، والانضباط واجب يلامس الوجدان والقلوب وعقول الجميع. لكن في مجتمعنا، تسود فوضى الضخ الإعلامي الفضائي دون ضوابط، بل ويحرس الفوضى فيالق شعبية مُغيبة صارت هي الحامي لها بكل القوى. اللفظية والجسدية ومن دون توعية، أو ثقافة قانونية، أو حتى مسؤولية أخلاقية بما يجوز وما لا يجوز.
ذلك على حد سواء من المتلقي وهو الضحية، أو من المرسل وهو المستميت بتعريف ما يقوم به على أنه قانوني ويسعى لتحصينه تحت عباءة الحرية والرأي وإن زوّر وحرّف، فله تلاعباته التي تدعمها مصطلحات، منها وعلى سبيل المثال لا الحصر: “قال مصدر مسؤول رفض الكشف عن اسمه” أو “قال شاهد عيان” أو “يقول آخر”.
في المحصلة، نحن في حالة صدمة لن نتعافى منها حتى نكاد نُصدم مجدداً، فلن يتوقف الانزلاق مالم نخلق قوانين عصرية تعرف كيف يتم التحايل بالمصطلحات، والتلاعب بالكلمات، وسوى ذلك مما يسعى إلى هلاك العقل الجمعي لهذه الأمة، وغربلة ما تأتي به العولمة إلينا.
يجب سن قوانين قابلة للتحديث المستمر، ومن أجل قهر وصدِّ هذا الغول الفاسد الذي ما زال يعبث بالأمن الثقافي المجتمعي، فلا غنى عن القانون الحديث الذي يضم حركة الإعلام المؤسساتي والذاتي، فهو وحده وزارة الدفاع الثقافي. الدفاع المستمر، ومواجهة العميل الثقافي الفعلي أو التطوعي أو الجاهل، الذي لا يعلم بأنهُ مجند ويتم التحكم به عن بُعد.
كاتب وباحث يمني
5-1-2021
رقم العدد 1027