الثورة أون لاين – أسعد الجبوري:
ما إن تمَّ لنا اجتياز السياج العملاق، الفاصل ما بين الطبقة الرابعة والخامسة من السموات، حتى حطّ بنا طائر “التيفو” على تلٍّ من الأعشاب الزرقاء، تحيط به فرق موسيقية وهي بكاملِ عدتها من الآلات.
كان المشهدُ ساحراً. نساءٌ تتسّاقط من الغيوم على إيقاعاتٍ من ألحانٍ رومانسية سريعة، فيما ظهرت من خلف التل، الشاعرة العراقية “نازك الملائكة” وهي على ظهر عربة مكشوفة، يجرّها اثنان من أقزام الفيلة مع كلبٍ سلوقي أشبه بالدليل لخطِّ سيرة تلك العربة.
ما إن ترجلت الشاعرة متقدِّمة نحونا، وهي تمشي بالكعب العالي، وتمسك بيدها مروحة من الريش الرمادي الشبيه بلون الريشة التي كانت مغروزةً بشعرها البني القصير، حتى صافحتنا بغبطةٍ مبتسمة.
بعد ذلك، تقدم منا رجلٌ ضخم الجثة وهو يحمل كرسياً مُلبساً بالصدف، لتجلس عليه الشاعرة التي دعتنا للجلوس، وتناول البوظة أو “الدوندرمة” كما لفظتها باللهجة العراقية.
من البوظة أو الآيس كريم البارد، إلى أسئلة هذا الحوار الساخن، وهكذا كان السؤال الأول للشاعرة “نازك الملائكة”:
س: هل كانت بغدادُ هي الرحم الأول لنازك الملائكة”.
ج: وأكثر من ذلك الشيء الفسيولوجي، فهي الرحمُ والموسوعة التي تدرّبتُ على تعلم قراءتها منذ الصغر.
س: وماذا تُعلّمُ المدنُ برأيك؟..
ج: تُعلمُ المرء الواعي، لغة الطين قبل لغة الأبجدية.
س: وأي اللغتين كانت الأولى اندماجاً بذهن “نازك الملائكة”؟ .
ج: سأقول لك شيئاً مهماً. لقد اكتشفتُ بطينِ دجلة، بعض الألواح المحفورة بالأشعار السحرية التي تعود لقرون فائتة من الزمن العراقي. كنت شبه طفلة آنذاك، ولكنني سرعان ما وجدت جسدي يشبُ بقفزةٍ تتجاوز القانون البيولوجي للأجسام الإنسانية، وهو ما أدخلني على الفور في دائرة المعارف.
س: تقصدين بأنك بلغت مرحلة النضج بشكل مبكر؟.
ج: أجل، وذلك هو قصدي بالضبط.
س: والخوف.. ألمْ تقعي تحت تأثير الخوف، من تلك التطورات التي طرأت على شخصيتك الأدبية، والفسيولوجية التي اجتاحت جسدك؟.
ج: كنتُ محاطةً بعائلة متعلمة وتمارس كتابة الشعر مثل أمي، لذلك اعتبرت نفسي محميةً بتلك الأسوار من أيَّة وحوشٍ قد تهاجمني، أو تتسلل إلى نفسي وإلى كتاباتي التي بدأتها وأنا في العاشرة من العمر.
س: كم من الخزائن كانت برأس “نازك الملائكة”؟.
ج: خزانتان اثنتان لا غير. خزانةٌ للشعر القديم، وأخرى للغيوم.
س: وكيف كانتا تتفاعلان فيما بينهما وهما برأسٍ واحد؟.
ج: كنت أفتحُ خزانة الشعر للغيوم، فتختار من القصائد لتحوّرَ وتستبدل وتعيد تدوير الكلمات والأوزان والقوافي، بالطريقة التي أراها سليمةً ولا أثر فيها للتزوير أو الانتحال أو اللطش.
س: أين يجدُ الشاعرُ الدفء، في الورق أم أحضان الحبيب؟
ج: في فنارة القلق الموجودة في أعماقه.. هكذا أرى.
س: وهل
كان جوف “نازك الملائكة” بحراً متلاطماً؟.
ج: أجل. ثمَّة مياهٍ متلاطمة بصخوري، إلى حدّ الوجع.
س: مُذ متى بدأ ذلك الوجع بالانتشار في جسد “نازك”؟.
ج: أظن أن الوجع الشعري جينة من جينات الشاعر التي تولد معه، ولا تموت من بعده.
س: تقصدين أن وجع الشِعر، لا علاقة له بالوجع المرضي؟.
ج: بالضبط، فهو نشاطٌ يعملُ على مقاومة عدم جدوى كتابة الشعر، في الأوقات العصيبة التي قد لا يستطيع فيها الشاعر التقاط أنفاسه بكمية الأوكسجين المنصوص عليها في برامج الصحة.
س: ألمْ يُمرضكِ الشعرُ يوماً يا “نازك”؟.
ج: كثيراً كثيراً، حتى أصبح جسدي خزانة للأمراض متعددة الهويات وفي مقدمتها العُزلة المُقْفِرة أقفاراً.
س: ولكن العُزلة نافعةٌ للعباقرة والشعراء والمبدعين عموماً، وكما يقال. ألا تعتقدين بذلك؟.
ج: هي هكذا عند البعض، مثلما هي ليست على تلك الشاكلة عند آخرين ذهبت بهم العزلةُ إلى الكآبة ثم إلى الانتحار.
س: ألا تعتبرين الانتحارَ إنجازاً شعرياً على صعيد الحياة الأدبية؟.
ج: أنا لا أعتبرُ الموتَ إنجازاً، لا على صعيد الوجود ولا صعيد الأدب. كراهيتي للموت ما تزال قائمة حتى بعد وصولي إلى هنا. الاحتفالات تحت التراب مؤلمة.
س: هل نال منك أحدٌ تحت التراب، فقام بعقابك على سبيل المثال؟
ج: لم أرَ أحداً هناك. كان باطن الأرض عبارة عن مرآة مقعرّة تمتلئ بالملايين من الموتى، وكنَّا نتبخَّرُ خارجين من عروقها البلورية نحو الفضاءات التي قادتنا إلى هنا بصحبة بعض الطيور الغريبة.
س: وهل سبق لك أن كتبت قصائد على إيقاعات المتحركين في المجال العدمي هناك؟.
ج: أجل. كتبتُ على الطينِ معلّقات من الشعر العمودي المجبول غماً وحزناً.
س: وهل كانت عودتكِ للشعر الكلاسيكي موفقة يا نازك؟.
ج: ومتى تركتُ الشعر العمودي لأعود إليه؟!.
س: ألستِ من فتح في الشعر العربي، باب الشعر الحر؟.
ج: لم تكنْ تلك إلا مزحةً أدبية عابرة، وكلّ من يقرأ شعري تتأكد له قوة ارتباط جذوري بالأسلاف، الذين لم ترتحل ذواتهم وأحبارهم وأنفاسهم من التموّج، في جميع مفاصل حياتي جسداً وتأليفاً.
س: تلك كانت نظرة بعض النقاد ممن لم يفصلوا ما بين أوزان الشعر العمودي النمطي وشعر التفعيلة، لأن الأخير أصبح شعراً حراً بالتجزئة أو بالتقطيع فقط. أليس كذلك؟.
ج: لقد رأى البعض ذلك، ولم تقنعهم الحركة الانتقالية من الشعر الكلاسيكي إلى ما قادني إلى شعر التفعيلة. ولكن الحق، لا يكمن في الانتقال من ذاك القديم إلى هذا الحديث شعرياً، بقدر ما كانت شخصيات قصائدي تتزين بالقوافي ولم تعط المخيّلة المديات القصوى لتأليف الشعر.
س: كنت بمخيّلة ضيقة وفكر نقدي واسع. ما ردّك على ذلك؟.
ج: ذلك كان صحيحاً، فأنا موظفة شعرية، وليست حالة استثنائية من الخيال الشعري النابض بالصور والبلاغة والمجاز والتورية، والبقية الباقية من علم البيان.
س: هل كانت الشاعرة نازك الملائكة، محكومة بوضعٍ محافظ حال دونها ودون كتابة قصائد الغزل، والانبعاثات الشّهوانية على سبيل المثال؟.
ج: ما قلته أنت كان صحيحاً، فظروفي العائلية خانقة وقد استسلمتْ روحي للحمِ الجسدِ شبه الميت.
س: كيف يموت التناغم ما بين الشهوة واللحم، ويكون هناك شعر؟.
ج: قد يكون الربط ما بين الاثنين خطأ، وأنا استطعت الفوز بالشعر دون الحاجة إلى المزيد من الحرائق، أو أن ما كتبته كان من صنوف الغزل العذري.
س: هل تؤمن نازك الملائكة بالشعر العذري؟.
ج: تجربتي تؤكدُ أن انفلات الكلمات من عقال المخ، قد يقودها إلى الحضيض. هكذا تعلمتُ ذلك، وبكل صرامة وبكامل الوضوح.
س: كيف كانت آخرةُ السيدة نازك هنا؟.
ج: مع الملائكة طبعاً.
س: هل هي المفاضلة ما بين الجمال والشر، أم هو الحنين لفخامة الألقاب العائلية فقط؟.
ج: أنا لم أتعامل مع الشيطان بالفعل، لا خيالاً ولا إلهاماً ولا تفكيراً..
س: أليس عجيباً أن يحدث ذلك حتى داخل المنظومة الشعرية؟.
ج: أجل، فقد كنت مشغولة بالكتابة عن عالم الطهارة وأرق النور، على الرغم من جائحة الكوليرا التي فتحت للناس أبواب المدافن.
س: هل كانت الكوليرا منتشرةً في منازل الشياطين وحدهم ؟!!
ج: لا. إلا أن الشاعر “عبد الوهاب البياتي” حرصَ أن يكون الفندق الأرحب للشياطين من سواه.
س: لماذا “البياتي” وليس “السياب” مثلاً ؟.
ج: لأن الأول، استقوى على السياب بالمرض والفاقة والمنفى ..
س: وهل كان البياتي ممن يخرجون الفيروسات النادرة من الأكياس، ويدفعون بها نحو ضحاياهم؟.
ج: أنا أشعرُ بأنه فعلها مع السياب، عندما دفعه بقدمهِ إلى القبر ليستريح تحت التراب.
س: تخلصاً منه كشاعر بارع متفوق، أم لكي ينقذه من آلامه التي كانت تنهش جسمه الشبيه بالهيكل العظمي؟.
ج: لا أشك بذلك، والبياتي نفسه حاول أن يأخذني رهينة التاريخ، عندما راح يسلط الضوء على نفسه كشاعرٍ أوحد، مبتكر للشعر الحر!!
س: هل كان التسابق على الريادة أمراً مقبولاً برأي نازك الملائكة؟
ج: بالتأكيد وحكماً.
س: لماذا حكماً، إذا كان الشعر الحر نسخة غربية، وأول من تمتع بتصوير تلك النسخة هو السياب كقارئ ومترجم عن اللغة الإنكليزية؟.
ج: أنا لم أخطط لمشروعِ الشعر الحر أبداً، ولكنه جاء بسبب تلك الجرثومة التي انتقلت من الموت إلى البشر، عن طريق تناول أطعمة أو شرب مياه ملوثة، وكل ما فعلته كان متعلّقاً بكتابة قصيدة “الكوليرا” التي أدت بي للخروج عن تاريخ الفراهيدي.
س: ما المسافة الفاصلة ما بين جرثومة الكوليرا، ورغبتك العارمة بتعلم الموسيقا؟.
ج: أنا عانيت بشدّة من سوء قياس المسافات، تارة ما بين قلبي والحب وتارة أخرى ما بين أصابعي والموسيقا، إلا أنني في أغلب الأحوال كنت مثل خزانة ثياب، تحتفظ بمختلف الأقمشة لتصبح بالية، ولا تصلح لإعادة الخياطة بمرور الزمن.
س: لذا أظهر ديوانك الأول “عشاق الليل” تلك الخاصية التي أكدت قوة ارتباطك بالطبية، وتناسي حرائق قلبك بالمجرى الغرامي. أليس ذلك صحيحاً؟.
ج: بلى، فعشَّاق ليلي كانوا من المنتسبين للورود والغيوم ورائحة تراب الحديقة، والأحلام التي تخلفها أسراب الجراد على مقاعد روحي، المُقفل عليها بألفِ قفل وقفل.
س: تقصدين بأنك كنت جبانة بتحرير جسدك من القهر والسلطة الأبوية؟.
ج: بالضبط. فأنا قتلتُ كل ذكورة استطاعت النمو على خريطة جسدي، أو تلك التي كانت تتقدم طريقي في الحياة، حتى وجدت نفسي في نهاية المطاف فأرة تجارب، تأكل بنفسها في غرفة معزولة عن حركات العالم.
س: بعد جفاف الموج العاطفي المتأثر بداخلك المتصحر؟!!
ج: سيرتي الذاتية أشبه بطنجرة ليس فيها سوى آثار طعام محترق، وكل ذلك ما كان ليحصل لولا سلوك العائلة وتعاملها القاسي معي، تحت ذريعة المحافظة على جسدي من رياح العواطف، ومراهقة الحرائق الشهوانية اللعينة.
س: وما النتيجة التي توصلت إليها بعد الموت يا نازك؟.
ج: أن يأخذوا مني “بطولة” اكتشاف الشعر الحر، مقابل قُبلة رجلٍ من سكان الجحيم.
س: ولكنك قمت بخيانة مشروع الشعر الحر، وحاولت التنصل منه بضرورة العودة إلى شعر الجاهلية، والتحصن بأعمدة الخليلي.
ج: لم أتحمل الحداثة ومشاريعها ومدارسها وحركاتها. رأيتها أشبه بأعمال الزنا الأدبي.
س: ألا تعتقد نازك بأن ضعف أدائها الشعري، هو الفعل الفاعل من وراء وجوب تلك الرِدّة ؟.
ج: أعترف بأن أعمال السياب ومن عاصروه أو أتوا من بعده، تميزت بالقوة الشعرية التي اعتمدت على غير تلك المسائل، التي جعلتها محوراً تدور حوله قصائدي. أنا فشلت إلى حدّ ما.
س: تقصدين أنك كتبت مشاعراً لم تتطور إلى مراحل الالتحام بقضايا الشعر المعاصر. ألمْ يكن ذلك سبب الاكتئاب القاتل.
ج: أجل. وهكذا تجرعتُ في القاهرة كأس سقراط، بعد أن غادرت الناسَ، مُغلقةً على نفسي حتى باب الهواء الرومانسي.
شاعرٌ وروائي عراقي
5-1-2021
رقم العدد 1027