الملحق الثقافي:د. مازن سليم خضور:
الوجهة الجديدة، إضاءة على مصطلحاتٍ شكَّلت النواة الأوسع في كثير من السياسات، وعمليات صوغ المفاهيم الجديدة، وأخرى كان لها الدور الأكبر في رسم الوجهة الاجتماعية والاقتصادية وكذلك السياسية، حين تمَّ العمل على تغيير بيئة مجتمعية كاملة لعدد كبير من البلدان.
“العولمة” مثلاً، واحدة من المفاهيم التي رافقت الفكر الليبرالي، وعُمل من خلالها على تعويمه، ولابد أن يسبُقَ أي نقاش لبحثِ سبل مواجهتها، طرح خطوات ونقاشات تتعلق بتدعيم الهوية الثقافية والوطنية، دون إغلاق الأبواب أمام الثقافات الأخرى.
و”العولمة” في اللغة العربية، تعني “حرية انتقال المنتجات الإعلامية والثقافية والتكنولوجيا” لكن العولمة كمصطلح، يقصد بها تعزيز التكامل في جميع المجالات، الاقتصادية والمالية والتجارية، وتعني في أبسط تعريفاتها “الانتقال بالشيء من المحدود إلى اللامحدود أو جعله عالمياً، أو حدوده الكرة الأرضية”.
مصطلح “العولمة” هو مصطلحٌ ازداد استعماله شيوعاً في السنوات الأخيرة، لكن مفهومها مازال يكتنفه الغموض، وتعد “العولمة – Globalization” من أهم التغيرات العالمية المعاصرة، وظهرت كمفهوم أو مصطلح، في العقد الأخير من هذا القرن، وهو اعتبار العالم بمنزلة قرية صغيرة متوحدة ومتجانسة، نتيجة لسرعة الاتصالات والإعلام الإلكتروني وصراع تملك الفضاء وغيرها.
في هذا المقال، سيتم التركيز على “العولمة الثقافية” أكثر من العولمة السياسية والاقتصادية والتقنية وغيرها.
ارتبط المفهوم الثقافي للعولمة بفكرة التنميط “Uniformalisation” أو التوحيد “Unification” الثقافي العالمي على حد التعبير الذي استخدمته لجنة اليونسكو العالمية للإعداد لمؤتمر السياسات الثقافية، من أجل التنمية التي عقدت في اجتماعاتها في مدينة ستوكهولم عام 1998.
التنميط الثقافي هو مرآة التطور الاقتصادي للعولمة، فمن البديهي أن يتكامل البناء الثقافي للإنسانية مع البناء الاقتصادي، وتلعب الثقافة دوراً مهماً في حياة الإنسان، وتتقاطع مع الهوية بنقطة مهمة جداً وهي “الثقافة”.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، يرفض الكثير من مفكري العالم الثالث، مفهوم “العولمة” باعتباره ظاهرة تعمل على “الأمركة” أي تهميش الشعوب وإذلالها، وجعل العالم يعيش داخل قوالب جامدة، فرضتها عليه قوى الإنتاج والإعلام الأميركية، التي تحاول أن تجعل من العالم نسخة مما لديها من ثقافة وسلوك أميركي يقوم على محو الهوية الثقافية للمجتمعات عامة، وتعويم النموذج الأميركي من ناحية التكنولوجيا أو الأزياء وحتى في الطعام!
وهنا يجب التمييز، ذلك أن البعض اتَّهم العرب بمحاربة “العولمة” لكن هم يسعون إلى تنفيذ ما يحاربونه في العولمة من خلال مفهوم الثقافة العربية، فمفهوم الهوية الثقافية القومية العربية، يعني الهوية المشتركة لجميع أبناء الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، وبالتالي لا يعني إقصاء الهويات الوطنية القطرية، ولا الهويات والعرقية الأثنية والطائفية، بل هو مفهوم يدل على وحدة هذه المنطقة، وامتلاكها للغة وتاريخ وحضارة واحدة، وهو مفهوم يدل على وحدة الأمة العربية.
ومن قاعدة أنه “لا يوجد شر مطلق ولا يوجد خير مطلق” يستطيع العرب أخذ ما يريدون من “العولمة” بما يتناسب مع طبيعة مجتمعاتهم، وتطوير بعض المفاهيم والأفكار التي لا تتناسب مع المرحلة الحالية، علماً أنها كانت تناسب حقبة تاريخية معينة في السابق، وبالتالي العمل على تطويرها لتتكيف مع المرحلة الحالية، حتى إن هذا يعتبر مضمون إطار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان “لكل فرد حق التمتع بنظام اجتماعي دولي يمكن أن تتحقق في ظله الحقوق والحريات المنصوص عليها في هذا الإعلان تحققاً تاماً.”
أيضاً، العمل على إقامة نظام دولي واجتماعي يفضي إلى احترام حقوق الإنسان بشكل حقيقي وفعلي، وليس أن تكون حجة للتدخل في شؤون الدول الأخرى، وخير مثال: الانتخابات الأميركية التي حصلت مؤخراً، والتي من خلالها تم خلخلة مبادئ الديمقراطية التي كانت تنادي بها الولايات المتحدة، حتى إن النائب الديمقراطي الأميركي “سيث مولتن” قال: إن عدد الجنود الأميركيين في واشنطن الآن، أكبر من عددهم في أفغانستان التي دخلتها الولايات المتحدة لإرساء الديمقراطية.
كل ذلك، يعيدنا إلى أهمية العمل على خطة متكاملة مترابطة، تعيد ترتيب الأولويات المجتمعية، والتي شكلت ثغراتها النواة الأولى للوجهة الجديدة “العولمة” ولا نبالغ إن قلنا، إن التنبه إلى أهمية استخدام اللغة العربية السليمة والبسيطة في وسائل الإعلام وكذلك الاتصال الجماهيري، يعد أحد أكبر أعمدة أي خطة حقيقية للمواجهة. قراءة أوسع في طرق إيجاد توازن مدروس بين رسائل المؤسسات التي تعنى بالجوانب الثقافية والتعليمية، ورسائلها التي تعنى بالترفيه والتسلية، ودعم القيم الدينية والروحية، دون إغفال أهمية الحفاظ على التراث الثقافي المادي واللا مادي، وإثرائه بالربط بين الموروث الثقافي والإبداعات المعاصرة، إذ تسعى العولمة إلى خلق وحدة ومنظومة متكاملة، في حين تدافع الهوية عن التنوع والتعدد، كما نجد العولمة تهدف إلى القضاء على الحدود والخصوصيات المختلفة، بينما الهوية تسعى إلى الاعتراف بعالم الاختلافات وترفض الذوبان.
باختصار “العولمة” تبحث عن العام والشامل، بينما الهوية هي انتقال من العام إلى الخاص، ومن الشامل إلى المحدود وتنحصر في بوتقة صغيرة.
التاريخ: الثلاثاء26-1-2021
رقم العدد :1030