افتتاحية الثورة – بقلم رئيس التحرير – علي نصر الله:
بعد تنصيب دونالد ترامب بأقل من أسبوع، خرج سلفه باراك أوباما ببيان شكل صدمة للسياسيين والمجتمع حذر فيه من أن “القيم الأميركية في خطر”، مُعبراً عن تأييده للاحتجاجات التي اشتعلت آنذاك رداً على إجراءات الرئيس الجديد في التمييز بين الناس على أساس اللون، وبالفرز بينهم على أساس العقيدة والدين.
اليوم، وبعد أسبوعين على تنصيب جو بايدن خلفاً لترامب يبدو الرئيس الجديد كما لو أنه في سباق شاق للمسافات الطويلة التي عليه أن يقطعها بوقت قياسي، تتراكم على مساراته حماقات ترامب كعوائق تُعرقل خطواته التي تتنازعها رغبتان متناقضتان، على الأقل ما يتعلق منها بقضايا الشرق الأوسط، ذلك أن الورطة متعددة الأبعاد وقائمة في كل الاتجاهات.
إذا كان أوباما قد استشعر الخطر على “القيم الأميركية” بعد أسبوع فقط من بدء ولاية ترامب، فما حجم العمل الشاق الذي ينتظر بايدن بعد أربع سنوات مملوءة بالحماقات الترامبية؟ هذا إذا صحَّت فرضية أن بايدن يتباين عن ترامب في الخط والاستراتيجيا، وخاصة بما يتصل بالصراعات القائمة والجبهات التي تفتتحها أميركا مع الصين، مع روسيا، وحتى مع الشركاء في الناتو، فضلاً عن التعقيدات الماثلة في ملفات الخليج وإيران والمنطقة.
قد ينجح بايدن في تسجيل العودة عن بعض حماقات ترامب بإلغاء قرارات الانسحاب من معاهدات واتفاقيات دولية مهمة، لكن ماذا عن الاتفاق النووي الإيراني؟ وماذا عن الانسحاب من سورية والعراق؟ هل يملك أصلاً إرادة التخلي عن استثمار الدولة العميقة بالإرهاب وتنظيماته التكفيرية، وقد كان أحد أهم مُهندسي هذا الاستثمار؟
يعتقد البعض أن المشكلة الحالية تُختزل في ترامب وطريقة إدارته للملفات، وربما تسعى واشنطن في هذه الأثناء لتعميم هذا المذهب في رؤية المشكلة وتشخيصها كي يُتاح لها مجالات أوسع للتلاعب والحركة، بينما المشكلة المركزية تكمن في النظام الأميركي ذاته، وإلا فلماذا تُنجز الإدارة الأميركية – ديمقراطية كانت أم جمهورية – اتفاقاً أو تفاهماً مع هذا الطرف أو ذاك، روسيا، الصين، مجموعة 5 + 1 الدولية، ثم ما تلبث واشنطن أن تنقلب عليه وتنقضه، وتعلن انسحابها منه؟
المشكلة في أميركا ذاتها، بل إن أميركا هي مشكلة العالم، ذلك أنها تفعل الشيء ونقيضه في المكان الواحد وفي القضايا المتماثلة لا المتشابهة فقط، هو ما تمارسه في السياسة، وقد ضُبطت مراراً في لعبة العبث بالتفاصيل خلقاً لتفاصيل أخرى تخدم مصالحها في الهيمنة والنهب والاحتلال، وسعياً لصنع معادلات بمواجهة المعادلات الأخرى، لكن بالبلطجة وبالتجاوز على المبادئ والقوانين التي لا تُقيم لها أيّ اعتبار.
صحيحٌ أن أداء ترامب أنتج أزمات لأميركا وأدى لعزلتها، غير أن الصحيح أيضاً أن الاختبارات الصعبة التي خاضها ليست شخصية فردية، بل تعكس حالة أميركية مبنية على تقديرات خاطئة وكارثية صنعتها المؤسسات وأجهزة المخابرات، ودائماً بما ينسجم مع طموحات وأطماع أميركا المُمتدة وغير المشروعة، إدارة بعد أخرى تتحرك على مساراتها لتحقيق الغايات نفسها مهما انطوت على مخاطر تهدد حتى الحلفاء والشركاء، وبالتالي فإن بايدن لن يتوقف عند أي حدود بهذا الاتجاه أو ذاك، بل سيتمدد لكن بطرائق جديدة ستختبرها إدارته سعياً لتحسين الصورة، إنما بالتصويب الثابت لمُحاكاة الأهداف الإمبريالية ذاتها.
ليس صحيحاً أن بايدن في سباق مع الزمن لقطع مسافات تنأى عن تلك التي مضى ترامب فيها، ذلك ترجمة لسياسات أُخرى مُختلفة، بل هو في سباق يبدو شاقاً لا لأنه يستوجب القيام بتعديل هنا أو تبديل هناك، إنما لأن حجم الفشل الأميركي كبير ويتعاظم، وقد بات يطرح تحديات كُبرى صنعتها واشنطن لنفسها، وعليها أن تتحمل مسؤولية إخفاقاتها، وأن تستعد لدفع أثمانها.
سورية بما تُمثل من مَوقع مُؤثر أفشلت بصمودها المشروع الأميركي، إذا كانت أحد أهم محكات العمل لإدارة بايدن التي عليها أن تتجرع مرارة الإخفاق الذي افتُضح معه وجه أميركا الحقيقي، فإن محك الاتفاق النووي الإيراني، وسواه من ملفات المنطقة، لا يقل أهمية، ومن المُؤكد أن التعاطي معها بذات العقلية التي تعمل على تدوير وإعادة إنتاج الأكاذيب والتلفيقات ذاتها، لن يؤدي إلا إلى مُضاعفة مآزق واشنطن، وإلى جعل سباق بايدن قفزاً في الفراغ واجتراراً مقززاً بلا معنى.