الثورة أون لاين – رنا بدري سلوم:
” ليعلم حملة الأقلام أن اللغة كائن حي نامٍ خاضع لناموس الارتقاء، تتجدد ألفاظها وتراكيبها على الدوام، فلا يتهيبون من استخدام لفظ جديد لم يستخدمه العرب، وقد يكون تهيبهم مانعاً من استثمار قرائحهم وربما ترتب على إطلاق سراح أقلامهم فوائد عظمى تعود على آداب اللغة العربية بالخير الجزيل” هو ما كتبه (جُرجي زيدان) موضحاً الفلسفة اللغوية التي تطرق لها مطولاً في كتابه “اللغة العربية كائن حي ” يبحث كيف نطق الإنسان الأول، كيف نشأت اللغة وتولدت الألفاظ من حكاية الأصوات الخارجية كقصف الرعد، وهبوب الريح، أما تاريخ اللغة، فيتناول النظر في ألفاظها وتراكيبها، بعد تمام تكونها فيبحث فيما طرأ عليها من التغيير بالتجدد أو الدثور، فيبين الألفاظ والتراكيب الجديدة بما تولد فيها، أو اقتبسته من سواها، مع بيان الأحوال، التي قضت بدثور القديم وتولد الجديد، ويعد الكتاب بحثا لغويا تاريخيا فلسفيا قسم به الكلام إلى ثمانية فصول”أدوار تاريخ اللغة العربية، والعصر الجاهلي ، الألفاظ الأعجمية، التغيير في الألفاظ، اللغة العربية وحدها، الألفاظ الإسلامية، الإدارية، العلمية، الدخيلة، المولدة في عصر التدهور، الألفاظ النصرانية واليهودية، النهضة العلمية الأخيرة، لغة الحكومة المصرية في دواوينها”.
ومن أهم ما ذكره الكاتب جُرجي زيدان الشرح المفصل لأهم خصائص اللغة العربية وهي أسماء الأضداد، فإن فيها مئات من الألفاظ يدل كل منها على معنيين متضادين، مثل قولهم (قعد) للقيام والجلوس ونضح للعطش والري و(ذاب) للسيولة والجمود و(أفسد) للإسراع والإبطاء وأقوى (للافتقار) أو الاستغناء. ومن خصائصها أيضاً دلالة اللفظ الواحد على معانٍ كثيرة، فمن ألفاظها نيف ومائتا لفظ يدل كل منها على ثلاثة معان ونيف حتى تصل إلى ستة وسبعة معان.
في هذا الكتاب ندرك معنى أن تكون اللغة العربية كائنا حيا يسير في الدثور والتجدد المعبر عنه بالنمو الحيوي، فقد تولدت في العصر الإسلامي ألفاظ وتراكيب لم تكن في العصر الجاهلي، وتولدت في العصور التالية ما لم يكن فيما قبلها، وأخيراً تولدت في نهضتنا الأخيرة من الألفاظ والتراكيب ما لم يكن معهوداً من قبل. حتى نصل إلى النهاية أو الخلاصة التي يكتب فيها جرجي زيدان آن لنا أن نخلّص أقلامنا من قيود الجاهلية ونخرجها من سجن البداوة، وإلا فلا نستطيع البقاء في هذا الوسط الجديد، فلا ينبغي احتقار كل لفظ ينطق به أهل البادية منذ بضعة عشر قرناً، لأن لغة البراري والخيام لا تصلح للمدن والقصور إلا إذا ألبسناها لباس المدن.
ولا بد لنا من المحافظة على سلامة اللغة العربية والاهتمام باستباقها على بلاغتها وفصاحتها وخاصة بعد أن أخذت تنهض إلى أرقى ما بلغت إليه، فلا يستحسن الاستكثار فيها من الدخيل والمولَّد وإنما يؤخذ منهما بقدر الحاجة على أن نعدّ ذلك الاقتباس نموّا وارتقاءً لا فساداً وانحطاطاً.
التالي