الملحق الثقافي:
عندما نلتقي شخصاً ما لأوَّلِ مرّة، نرسم له في مخيلتنا صورةً وهيئةً، نستجلي من خلالها بعض سجاياه، ولكن قد تذهب تلك الصورة أدراج الظنون.. هو اللقاءُ الأول إذاً..
يوم التقى «أنكيدو» بـ «عشتار» لأول مرّة، انبهر بها.. بكلامها المعسول.. برقَّتها وأنوثتها.. بجسدها الذي لم تتح له البراري، رؤية جسدٍ أنثويٍّ مثله من قبل.. لم تتحْ له إلا رؤية إناث الكائنات الأخرى، ويومها أصابه الهذيان.
إنها سكرة العشق، ولم يكن يعرف أن هذا الكائن الجمالي الذي يُسمّى امرأة، ستكون على يده نهايته.. هي لم تكن تهواه، وهو لم يكن يدري أساساً ما هو الهوى، ولم يكن يعلم أنها تهوى غيره.. تهوى صديقه «جلجامش» الذي رفض لقاءها، لمعرفته المُسبقة بما فعلت بعشَّاقها قبله، فأرادت الانتقام منه بصديقه الفقير، فكان اللقاء الأول لـ «أنكيدو» بها، هو اللقاء الأخير، لكنها علّمته فنون المرأة العاشقة.
قد يكون اللقاء الأول جميلاً، وقد يكون عادياً، أو قد يكون مملوءاً بالحذر، أو مملوءاً بالنفور، ولكلِّ جديدٍ في حياتنا متعة خاصة، نحاول معها استحضار الكلمات التي نجتهد في ترتيبها قبل اللقاء، لنجد أنفسنا وقد نسينا كلّ شيءٍ من أول نظرة.
واللقاءُ الأول مع الأشياء، يشبه اللقاء الأول مع الأشخاص، الأشياء الجامدة في الطبيعة، أو بعض الهدايا، أو الأشياء الجامدة المتحركة، كالسيارة مثلاً، حيث نراها لافتة وجميلة، وعند قيادتها، ومع أول خطأ منّا في التعامل معها، نصبُّ جام غضبنا عليها، ونبدأ بشتمها وشتم صانعها، وننسى أننا من أخطأ وليس هي.
إذا كان الحال مع المتحرّكات الجوامد، يصل بنا إلى ما سلف، فكيف يكون الحال مع المتحرّك الناطق، أو الثابت في بناءٍ ويمنحنا قيمة معنوية، مثل مكتب فخم في مؤسسة أو شركة، وعلينا لقاءه لأول مرّة؟.
السيارة يمكن أن تستعين بسائقٍ مختص ليقودها، أما المكتب فأنت هو المختص، وأما الناطق فقد يكون حبيباً، فهل ينفع معه الاستعانة بمختصٍّ؟!.
إنها المواجهة، ولكي نكون قادرين على المواجهة، لابدَّ من تدعيم أنفسنا بثقافة اللقاء الأول، وهي المرآة الحقيقية التي تعكس ثقافتنا في الحياة، جهداً ومعرفة.. جمالاً وقُبحاً.. وعليها تُبنى عُرى الانطباع الأول، الذي قد يدوم طويلاً كما يقال.
هنا، يظهر أسلوب تعاملنا في الحياة، من الدائرة الأصغر إلى الدائرة الأكبر، وفقاً لأمزجة الثقافة المختلفة التي تسود في أيِّ لقاءٍ، فتنجح أو تفشل، وهذا كله بسبب قلّة المعرفة المؤدية لثقافة اجتماعية، تطيح بنا من أعالي أيِّ لقاءٍ.
ربّما يقول قائل: إن التجارب تصقل رؤانا حول اللقاءِ الأول..
نعم، ولكن التجربة هي نتيجة للثقافة، وعلينا الاستفادة من تجارب الآخرين. هذا صحيح، ولكن يبقى ضمن معيار العظة وأخذ العبرة، فالذي يرى غير الذي يسمع، وإن غابت ثقافة الشخص، لابدَّ أن يقع فريسة العبرة، ويصبح عبرة للآخرين.
إذن.. كيف نستدرك وقوعنا في العبرةِ عبر اللقاء الأول؟.
ربَّما اعتاد السواد الأعظم من الناس، على تبادل بعض الأسئلة الروتينية المبتذلة، بحجّة كسر بعض الحواجز الشخصية.. هذه الطريقة لم تعد مجدية، وهي تدلُّ على ضعفِ الشخصية، وقد يكون المستمع أكثر خطأً من المتكلِّم الذي يبدأ الحديث، فإن بدأه مثلاً، ببيت شعر أو طرفة ترسم الابتسامة، أو بقصة شعبية سمعها من العجائز، وفيها من الظرافة ما يجعل الآخر منجذباً بكليته لقرينه المتحدث، سيكون قد مهّد أمامه بعض التجاعيد والارتباكات التي لابدَّ أن تفعل فعلها في النفس، وتسهم في رفعِ نسبة الانطباع الإيجابي بينهما.
حتماً، اللقاء الأول بين شابٍ وفتاة، غير اللقاء الأول بين شابٍ وشاب، أو بين فتاةٍ وفتاة، فاللقاء لأجل التعارف والصداقة، غير لقاء العاشقين، وغير لقاء العمل.. لكن، هل يكون اللقاء الأول بين اثنين فاتحة خيرٍ أو شرٍّ؟..
هذا مالا يمكن تقديره أبداً، وعلى كلِّ حالٍ، لولا التلاقي ما عُرف الخير ولا الشر، ولا عُرف الصالح من الطالح..
ثقافتنا هي التي تحدّد المنحى الذي نصل من خلاله لأهدافنا، فلنجعل الثقافة معيار حياتنا، ليكون اللقاء الأول معيار الرقي والنجاح.
التاريخ: الثلاثاء16-2-2021
رقم العدد :1033