الملحق الثقافي :د. صلاح عيد *
الخط العربي عالمٌ قائم بذاته، مترامي الأبعاد من حيث الأصول والمنشأ، والانتشار، أشكاله ومدارسه، دوره، مكانته، والفلسفات التي نمت وتنمو في أركانه، وعلاقاته بالمعارف والثقافات الأخرى.
في مرحلة من مراحل العشق لخطِّنا العربي، بدا لي أنه من الأهمية التعرف على منشئه وتطوره، والجغرافية التي ساد فيها. الأهم من ذلك، علاقته بلغتنا التي نعشقها ونعتزُّ بها.
في عام ٢٠٠٦ توجهت إلى سورية، من أجل إقامة معرضين للخط العربي، في كلٍّ من دمشق وحلب، وبرعاية وزارة الثقافة. أيضاً، من أجل التوجُّه إلى معرض دمشق للكتاب، والتجول والبحث في أروقته الساحرة.
تجوّلت في هذا المعرض، وفي دور النشر ومعروضاتها خلال خمسة أيام، وانتهيت بتكوين كنزٍ خطيٍّ مؤلَّف من سبعة عشر كتاباً عن الخط العربي. عدتُ بهم الى باريس، وكنتُ أشعر بسعادة عارمة ودائمة.
من هنا بدأت رحلتي، في التعرف على خطّنا العربي بشكلٍ أكثر عمقاً وأشدّ دهشة. إنه يمتلك مخزوناً حضارياً هائلاً، تراكمت فيه حضارات سومر وآكاد وبابل وآشور وماري وحلب وأوغاريت الفينيقية، وجبيل وآرام دمشق والأنباط، إلى أن ظهر الشكل الأول لحرفنا العربي في بلاد الشام.
هذا الحرف تحوَّل وتطوَّر عبر كل هذه الحضارات المتعاقبة، وعلى مدى أكثر من خمسة آلاف سنة، ابتداءً بلغة أجدادنا السومريين الذين امتدت حضارتهم من المتوسط حتى الهند. هذه اللغة السومرية، بلغت درجاتها القصيّة عندما ابتكر أجدادنا الفينيقيون أول أبجدية في التاريخ، صيغت أحرفها من إشارات سومرية.
الحضارة الفينيقية بازدهارها وانتشارها على حوض المتوسط، احتاجت أن تطوِّر لغتها، إلى أن أتى أجدادنا الآراميين ومملكتهم الأكبر دمشق، بلغة متطورة. اللغة الآرامية. لغة السيد المسيح عليه السلام، والتي تابعت مسيرتها عبر أجدادنا الأنباط، دوماً في بلاد الشام، ليظهر أول شكل لكتابتنا العربية، ومن ثم الشكل الثاني، انتهاءً بلغتنا التي نتكلمها.
في هذه الحضارات ظهرت تشريعات وآداب لأول مرة، وظهرت علوم وجدت أسسها في الحضارة البابلية. مثلاً، من المعروف أن البابليين استخدموا «خوارزميات» للتعرف على القيم التقريبية للجذور التربيعية. هذه «الخوارزميات» تدرس حالياً بلغة رياضية حديثة، على شكلِ متتاليات عددية متقاربة، في كل مناهج الرياضيات المتطورة في العالم.
إذا أردنا التعرف على أسس الرياضيات المالية، فإننا نجدها أيضاً في علوم الرياضيات عند البابليين، وهنا نلاحظ أول وجود لظواهر لوغاريتمية وأسية، نهل منها اليونانيون القدماء.
كلُّ هذا، قبل أن يبدع العرب والمسلمون في جميع نواحي العلوم، من الهند وحتى جنوب غرب أوروبا، في فضاء العاصمة دمشق. جدير بالذكر هنا، أن التحليل التوافقي، أحد أدوات علم الاحتمالات في الرياضيات، وقد ظهرت أسُسه في إحدى مدارس المغرب العربي، في محاولة لإدراك كل موازين الشعر العربي. من هذا التحليل التوافقي، ومن خلال تطوره عبر قرون، ظهر فيما بعد في أوروبا النهضوية، ما يسمى بقانون التوزيع الثنائي، وهو قانون يتحكم بمنظومة التبادل الحراري، إحدى أكبر وأعقد منظومات الفيزياء قاطبة، وأكثرهم إرشاداً، ولقد بقيت أسرار هذا التبادل مستعصية عن الكشف حتى مطلع القرن العشرين، إلى أن أتت «مدرسة تشيبيشيف الاحتمالية» الروسية، لتقدِّم واحداً من أهم رواد علوم الاحتمالات. «أندريه ماركوف»، الذي قدّم نظرية تحمل اسمه، وبواسطتها تمَّ اختراق منظومة التبادل الحراري، والتعرف على الكثير من أسرارها، إن لم تكن كلها، وفي عام ١٩٢٨ تمَّت عولمة نظرية «سلاسل ماركوف» في مؤتمر علماء الرياضيات في مدينة بولونيا الإيطالية.
عندما كانت أوروبا غارقة في سبات، كان المبدعون العرب ينقلون المعارف الإنسانية من خلال مساهماتهم المعرفية، وعملية الترجمة للمعارف اليونانية ماهي إلا مرآة لتقدم ورقيّ الفضاء المعرفي العربي، وبشكلٍ أعم، لاحقاً العربي الإسلامي.
هنا لعب الخط العربي، دور الحاضنة الأمينة لهذه المعارف العلمية والإنسانية التي نهلتْ منها أوروبا في سياقها المعرفي والحضاري. نهلتْ المعارف والفنون والآداب والعلوم، وحتى الآن، هناك علماء رياضيات يودّون أن يثبتوا، بأن الأخطاء في حسابات علماء الفلك العرب، تعود إلى عدم وجود بنى لعلوم الاحتمالات، ولهذا مدلولات حضارية وعلمية غاية في الأهمية. في هذا الفضاء، تظهر الحاجة لتبني أو لتأسيس معارف وعلوم جديدة.
فيما يتعلق بالخط العربي، والأشكال الهندسية العربية التي رافقته في تقديم مادة غنية للجمال، والتي ظهرت في مساحات جغرافية واسعة من «تاج محل» في الهند إلى بلاد الأندلس.. هذه الاشكال الهندسية، تميزت بنماذج رياضية معقدة في غالبها، ولها تاريخ موازٍ لتاريخ الخط العربي. في بلاد ما بين النهرين، دجلة والفرات، وقبل أكثر من خمسة آلاف سنة، كانت الفسيفساء الهندسية المعقدة، القائمة على المثلثات عامةً، والمتساوية الأضلاع خاصةً، جزءاً من التراث الحضاري المعماري .
«بورجوان» أحد تلامذة عالم الرياضيات الفرنسي الشهير «كورنو» (١٨٠١-١٨٧٧)، كان لفترة من الوقت، أستاذاً في كلية الفنون الجميلة في باريس الرائدة في تعليم الهندسة المعمارية في أوروبا. تميز بمهارات هندسية ورياضية فائقة قل نظيرها، سمحت له بصياغة تصاميم يقترب عددها من المئتين، وكلّها مستوحاة من مصادر مصرية وفارسية وسورية.
الخط العربي نال اهتمام كل الحضارات الممتدة من الهند حتى بلاد الأندلس، ويوجد أكثر من مئة نوع من أنواع الخطوط العربية، بعضها يتطلب سنوات عديدة من المراس والمثابرة، بل والشغف للوصول إلى مستوى لائق من النضج.
إضافة إلى المدارس العربية من المحيط إلى الخليج، ساهمت مدارس بلاد فارس، إيران عامةً، في ابتكار أحد أجمل الخطوط العربية، ألا وهو الخط الفارسي. بهذا الخط، دُوِّنت معارف وعلوم، وهناك نظريات ومسائل في علوم الرياضيات، كتبت بأجمل ما وصل إليه الخط الفارسي من نضج وجمال، وهو ما أضيف إلى كنوز الخط العربي.
أيضاً، فُتنت بلاد وشعوب الأناضول بالخط العربي، وللدرجة التي جعلتهم يساهمون في تطوير خطين عربيين، هما «النسخ والثلث»، وفي ابتكار خطين غاية في الجمال، هما «الرقعة والديواني».
لقد اجتمعت على حبِّ فن الخط العربي، وعلى تكريمه بأعلى الدرجات أحياناً، كلّ مجتمعات الحضارة العربية والإسلامية، وقد تابع انتشاره الحضاري عبر القارات الخمس.. نعم تابعَ ويتابع انتشاره، وهو يتواجد في أعرق متاحف أوروبا والعالم.
*جامعة باريس السابعة
التاريخ: الثلاثاء16-2-2021
رقم العدد :1033