ترى هل قرأ الإمام محمد عبده ما قاله فنان عصر النهضة الأعظم ليوناردو دافنشي، في العلاقة بين الرسم والشعر – وخاصة أن الشيخ الجليل كان على معرفة واسعة بالثقافة الأوروبية، بما في ذلك فن النحت وفن التصوير(الرسم) – حتى كاد الشبه بين نصه و نص دافنشي حول هذه العلاقة أن يتطابق تماماً؟
يصعب القبول بما سبق، إذ لم يحدث أن أورد الشيخ عبده قولاً لغيره دون الإشارة إلى ذلك بجلاء، غير أن الشبه بين النصين – كما سبق – يثير السؤال، ففي الصفحة 204 من أعماله الكاملة الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت عام 1980 نقرأ: (الرسم ضربٌ من الشعر الذي يُرى ولا يُسمع، والشعر ضربٌ من الرسم الذي يُسمع ولا يُرى). وفي المقابل يورد الدكتور ثائر زين الدين في مؤَلفه: (ضوءُ المصباحِ الوحشيُّ) نصاً ليوناردو دافنشي جاء فيه حرفياً (الرسمُ شعرٌ يُرى ولا يُسمَع، والشعرُ رسمٌ يُسمَعُ ولا يُرى)، مع ذلك يمكن الحديث عن توارد خواطر، أو اتفاق أراء، ويدعم هذا سلسلة من القطوف أوردها د. زين الدين تتنمي إلى أزمنة وأمكنة متباينة، تتبنى الرأي ذاته. فالشاعرُ والناقدُ الأدبي اللاتيني هوراس الذي عاش في القرن الأول قبل الميلاد شبه عمل الشاعرِ بعملِ الفنّان التشكيلي، ورأى أنَّ (الشعرَ هو الصور). والجاحظ قال في القرن السابع ميلادي (إنَّما الشعر صناعة وضرب من النسيج وجنسٌ من التصوير) – وفي عام 1741 قال الرسام والناقد الفني والكاتب المسرحي الفرنسي تشارلز أنطوان كويبل (على الرسَّام في أسلوبهِ الراقي أن يكونَ شاعراً، لا أقول إنَّ عليهِ أن يكتبَ شعراً، إذْ ربّما يفعلُ المرء ذلك من غير أن يكونَ شاعراً، ولكنني أقول إنّه يجب أن لا يمتلئ بالروح ذاتها التي تحرّك الحياةَ في الشعر فحسب، بل عليهِ أيضاً أن يعرفَ بالضرورة قوانينه التي هي قوانين الرسم ذاتها )، وعبّرَالفنان الإسباني بيكاسو، معجزة فن القرن العشرين، عمّا يشبه هذا الرأي حينَ قال: (الرسمُ هو الشعر، وهو دائماً يُكتَبُ على شكلِ قصيدةٍ ذاتِ قافيةٍ تشكيليّة، وهو لا يُكتبُ بالنثرِ أبداً).
في تقديمه لمؤَلفه المذكور سابقاً الذي يحمل عنواناً فرعياً (عن الشعرِ والفنِ التشكيلي) والصادر العام الماضي عن الهيئة العامة السورية للكتاب في 416 صفحة، يقول الدكتور زين الدين:
(لا شكَّ أنَّ العلاقةَ بين الشعر بخاصة ( والأدب عموماً ) من جهة، والفن التشكيلي من جهةٍ ثانية قديمة قدمَ هذين الوجهين الجميلين من وجوهِ النشاط البشري، وقد ظَلَ هذان الفنّانان عبر التاريخ متوازيينِ مُترادفين، لأنهّما ومنذ ولدا قد عالجا الكائنَ نفسه، أعني الإنسان، بوسائِلَ مختلفة بالتأكيد… وقد اقتبس أحدهما من الآخر دائماً وتأثر كلٌ منهما بأخيه ! فمن منا مثلاً يستطيع أن ينكر تأثير الأساطير المصريّة الفرعونيّة القديمة على الفن المصري الفرعوني، أو ينكر تأثير الأساطير الإغريقيّة على النحتِ الإغريقي الوثني، ثمّ تأثير العهدين القديم والجديد على آلاف النحاتين والمصورينَ فيما بعد، وكأنّي بالكلمة أو الحكاية على العموم مصدراً أولياً وأساساً لإلهام المصّور أو النحات الخاطرةَ الأصليّة، التي سوف تتجسد بعد حين وتصنع المادة، وتتجلى عملاً فنياً فريداً، ومن هذا الباب يمكن اعتبار الفن التشكيلي تعبيراً عن فكرةٍ أدبيّة).
ويستكمل الدكتور زين الدين فكرته فيقول: (وبالمقابل من التعسفِ بمكان أن لا ننتبه إلى أثر الفن التشكيلي في الأدبِ وأسبقيّة النحت والتصوير مثلاً على كثيرٍ من الروائع الأدبيّة… وقد يرى أحدهم أنّ التصوير سابق الشعر، فلوحات واتو التي تمثّل حلقات الغزل تقدّمت مسرحيّات ماريفو الشهيرة بمشاهد الدعابة ومراودة الحِسان، ولوحاتُ برودون التي تصوّر الليالي المقمرة، ولوحاتُ جوزيف فيرنيه التي تعرض أمواج البحر سبقت صفحات شاتوبريان التي تصف العاصفة والليل، والتيار الرومانسي الذي استلهَمَ القرون الوسطى وتغنّى بالمشاعر الشخصيّة أنتجَ فرائده في تصاوير دولاكروا قبل مسرحيّات هوغو وملحمته (أسطورة العصور)، كذلك مهّدت لوحة كوربيه (الجناز في قرية أورنان) السبيل لمشهد جُنّاز مدام بوفاري في رواية فلوبير).
تعود جذور كتاب (ضوءُ المصباحِ الوحشيُّ) إلى مطلع عام 2010 حين وضع المؤلف كثيراً من الملاحظاتِ عن علاقةِ الفن التشكيلي بالشعر، نمت لتصبحَ مقالاتٍ وبحوثاً تُنشرُ في بعضِ الدوريّاتِ ويغلبُ عليها الإيجاز والتكثيف، ويذكر المؤلف أنه لم يتوقف عن التفكيرِ في هذا الموضوع، ولاسيما أنَّهُ كان يُمثِّلُ شطراً كبيراً من عمله على شعره نفسه، إذ كتب مجموعة من القصائد بتأثيرِ أعمالٍ فنيّةٍ تشكيليّة شهيرة؛ منها قصيدة (مصابيح) التي تضم: (مصباح جورج دي لاتور/ المجدليّة التائبة)، وقد كُتبت بتأثير لوحة (المجدليّة التائبة)، التي رسمها دي لاتور وقصيدة (مصباح فان كوخ/ آكلو البطاطا)، التي تدخلُ في حوارٍ مع فان كوخ ولوحتِهِ الشهيرة، وقصيدة (كرسي بول غوغان)، التي استلهم فيها الشاعر لوحة فان كوخ التي رسمها بعد أن تركه صديقهِ بول غوغان إثر خصامٍ نشب بينهما، وغيرها من القصائد، كانت أهم مؤثرات هذا التوجه سؤال الشاعرِ نفسه: ( كيفَ يمكن للكاتبِ أن يعيشَ مستخدماً حاسة البصر أجملَ استخدام؟). وقد عزَّزَ ذلك زياراتٌ كثيفةٌ قام بها خلال دراسته لمتاحفَ ومعارض كثيرة منها: الأرميتاج في لينينغراد (سابقاً)، ومجموعة تريتيكوفسكي في موسكو، ومتاحف أوديسا وخاركوف ومينسك وكييف وغيرها من مدنِ الاتحاد السوفييتي السابق، واقتناء مُجلَّداتٍ تضمُّ أعمال تلك المتاحف يوم كان ذلك متاحاً بأسعارٍ رخيصة، وكذلك زيارة بعض المتاحف العربيّة.
يذخر الكتاب – الدراسة بعدد كبير من المواضيع التي تحلل أعمالاً فنية وأدبية من الشرق والغرب، ويليها أكثر من خمسين صورة منتقاة بدقة للوحات ومنحوتات طالتها الدراسة، إضافة إلى نصوص كتبها أدباء بصياغات تشكيلية، ومع أن المؤلف هو شاعر فإن الدراسة قد ركزت على تأثير الفن التشكيلي في الشعراء بما أغنى نصوصهم وجددها وبعث فيها حيوات أخرى. أما عنوان الكتاب فقد استوحي من لوحةِ (٣ مايو ١٨٠٨) أو (الإعدام) لفرانشيسكو غويا، وتحديداً من ضوء مصباح فصيلة الإعدام الفرنسية على جسد الفتى الإسباني الأسير، وهي اللوحة التي شغلت غلاف الكتاب الذي يمكن القول عنه بإيجاز: أنه إضافة ثرية إلى المكتبة العربية.
سواء في جانبها الأدبي ..أم في جانبها التشكيلي.
إضاءات – سعد القاسم