الملحق الثقافي:د. عدنان عويّد *
الثقافة من حيث المفهوم، أصبحت مع التطوّر الهائل للعلوم الإنسانيّة، قضية إشكاليّة، بل هي شائكة ومعقدة، حيث راحت تتعدَّد دلالاتها وفقاً للعلوم التي تتناولها، الأمر الذي أعاق في الحقيقة قدرة الباحثين والمهتمين بالشأن الثقافي، على وضعِ تعريفٍ أو مفهوم دقيق لها، يمكن اعتماده كمرجع لمن يرغب في الاشتغال عليها، فلقد تجاوزت مفاهيم الثقافة المئة ونيف. ومع ذلك، قد نصل إلى جزءٍ كبير من الحقيقة إذا ما غامرنا في وضع تعريف لها بقولنا: هي كلّ ما قام الإنسان بإنتاجه تاريخيّاً، وفي الجانبين المادي والفكري/ الروحي، من خلال علاقته مع الطبيعة والمجتمع.
ما أريد التركيز عليه هنا، في قضيَّة النسقِ الفكري (الأبستمولوجي)، هو أن الثقافة تتجلّى بكونها بنية فكريّة، في أنساقٍ معرفيّة متعددة، كالفلسفة والدين والقيم الأخلاقيّة والأدب والفن.. أو ما يمكن تسميته اصطلاحاً الأيديولوجيا. فهي في هذا السياق، نتاج إراداتٍ ونشاطاتٍ لأفراد ومجتمعات يتعايشون مع بعضهم، ولهم مصالح ماديّة ومعنويّة تحرك هذه النشاطات، وتفرض عليهم التعبير عنها في أنساقٍ فكريّة قد تكون مباشرة، تمثلها علاقات الناس اليومية، أو تكون ذات نسقٍ معرفيّ عالٍ، يغلب عليها التخصص من جهة، والبعد الأكاديمي والمنهجي من جهة ثانية.
والثقافة في نسقيها المادي والفكري، هي نتاج الوجود الاجتماعي للفرد والمجتمع كما بيَّنا أعلاه، وهي تاريخيّة، أي قابلة للتطور والتبدل في مضمار الوجود الاجتماعي الذي تنشط فيه. بيد أن الثقافة في نسقها الفكري (الأبستمولوجي)، تظلُّ في حركتها وتطورها وتبدلها، أبطأ بكثيرٍ من تطورها في نسقها المادي، أي من تطور قوى ووسائل الإنتاج، وما يرافق ذلك من عمران على كافة المستويات، كالبناء والزراعة والصناعة والمواصلات، وكل ما يحدث من تقدم تكنولوجي، أو ما تحققه هذه التكنولوجيا من تطور على مستوى الطبيعة والمجتمع. وعلى هذا الأساس، نجد استمراريّة البنى الفكريّة القديمة وسيادتها لفترات زمنية طويلة، وهذا حال العادات والتقاليد وقيم (الماضي) التي تبقى متداولة بين الناس، في الوقت الذي تجاوز فيه المجتمع الظروف الماديّة التي أنتجت هذه الثقافة، والسبب يعود برأيي للتالي:
1- إن التطور المادي، يتم بصورةٍ أسرع بكثيرٍ من التطور الروحي، وهذا التطور السريع في الجانب المادي على حساب الروحي/ القيمي، يرتبط بالضرورة بحاجات الناس الماديّة أثناء إنتاجهم لخيراتهم الماديّة ذاتها، فهذا النشاط المكرَّس من قبل الإنسان لتأمين حاجاته الأساسيّة، من طعام ولباس ومواصلات وغيرها، يدفعه إلى الاهتمام بالجانب العملي أكثر من اهتمامه بالجانب الفكري، وهذا ما يسهم في استمراريّة ثبات البنية الفكريّة أو بطء حركتها، وبالتالي تكلُّس وجمود الوعي لدى الإنسان ممثلاً بثقافته الماضويّة، وكذلك بنيته النفسيّة والأخلاقيّة، وحتى السلوكيّة التي تُحكم بالغالب بهذا الوعي، وبهذه البنية النفسيّة والأخلاقيّة الموروثة لدى الفرد والمجتمع.
2- ومن الأسباب الأساس في هذا التفاوت، غير المتكافئ بين نسقي الثقافة المادي والفكري، يأتي استخدامنا وسائل إنتاج ماديّة (تكنولوجيّة) ليست من صناعتنا، وإنما نقوم باستيرادها واستهلاكها، وهنا يحدث الشرخ الكبير بين ما نفكِّر فيه بعقلية ماضويّة، وبين ما نتعايش معه من وسائل إنتاج متطورة، لذلك لا نستغرب أن نجد من يحارب الوسائل التكنولوجيّة الحديثة والتطور العلمي المرافق لها، على أنها بدعة وضد عاداتنا وقيمنا وتعاليم ديننا، وهذا ما وجدناه على سبيل المثال لا الحصر، في السعوديّة مثلاً، عندما اكتُشف النفط، وتدفَّقت الثروات الهائلة التي ساهمت في استيراد التكنولوجيا الحديثة إلى السعوديّة، كالسيارة والطيارة والهاتف، وكلّ ما هو حديث من الوسائل التكنولوجيّة القابلة للاستخدام الفردي أو المنزلي، أو على مستوى نشاط مؤسسات الدولة.
حين حصل ذلك، وقف رجال الدين من الوهابيين ضد هذه التكنولوجيا وربطوها بـ (الشيطان الرجيم) الذي يعمل على إفساد الإنسان، ولا نستغرب أن (الباز) مفتي السعوديّة الراحل، لا يقرُّ بدوران الأرض، ويفتي بقتلِ من يقول بذلك، وإن تاب تصادر أمواله.
إن حالات التفاوت في التطور بين النسقين الثقافيين المادي والفكري، أدى إلى ظهور نخب ثقافيّة راحت تشتغل باتجاهين مختلفين هما:
الاتجاه الأول: وهو الاتجاه التقدمي، الذي يسعى جاهداً لخلقِ وعيٍ فكريٍّ تقدمي، يؤمن بدور العقل وحريّة الإنسان، ومكانته في تقرير مصيره وإعمار هذه الأرض، وضرورة تقبُّل الحداثة على كافة المستويات، الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة. وهذا الاتجاه كثيراً ما لاقى ويلاقي الإقصاء والمحاربة من قبل القوى السياسيّة والفكريّة والاجتماعيّة، التي لها مصالح ماديّة ومعنويّة في تجهيل الفرد والمجتمع، وتعمية بصيرتهم عما يجري حولهم، وعن إمكانية تغيير واقعهم نحو الأفضل.
الاتجاه الثاني: وهو الاتجاه الذي تمارسه قوى سياسيّة ونخبويّة ثقافيّة، تعمل هنا على عرقلة حركة الفكر الإنساني العقلاني النقدي، والسعي إلى تنشيط وتغذية الفكر القائم على الغيب والامتثال والاستسلام، أو على الحدس والذاتيّة، والدوافع الغريزيّة والنفسيّة، أو الوعظيّة. ومن هنا تأتي مسألة هيمنة الفكر الظلامي الإقصائي والتكفيري، عند أفراد ومجتمعات العالم الثالث بشكلٍ عام، ووطننا العربي بشكلٍ خاص، وبالتالي تقوم هذه المجتمعات عبر فكرها المتخلف حضارياً، بمحاربة وتدمير نفسها.
*كاتب وباحث من سوريّة
d.owaid333d@gmail.com
التاريخ: الثلاثاء6-4-2021
رقم العدد :1040