الثورة – إيمان زرزور:
تمثل سوريا واحدة من أغنى دول العالم بالتراث الثقافي والحضاري، بما تضمه من مئات المواقع الأثرية التي تحكي تاريخ الإنسان منذ فجر الحضارات، إلا أن هذا الإرث الإنساني الذي يشكل هوية الشعوب وروح الحضارة، تعرض خلال سنوات الحرب لتدمير ممنهج ونهب منظم، ما جعله في مواجهة خطر الزوال، وما يحدث في سوريا لا يُعد خسارة محلية فحسب، بل يشكل كارثة تطال ذاكرة الإنسانية جمعاء.
على أرض سوريا تعاقبت حضارات الفينيقيين والآراميين والآشوريين والرومان، وصولاً إلى الحضارة الإسلامية، حيث تركت هذه الأمم بصمات خالدة في مدن تاريخية مثل تدمر وأفاميا وبصرى الشام وحلب ودمشق القديمة، والتي أدرجتها منظمة اليونسكو ضمن قائمة التراث العالمي. غير أن التراث السوري لا يقتصر على المعالم الحجرية، بل يمتد إلى التراث الشفهي والفلكلوري والحرف التقليدية والموسيقى الشعبية التي تعكس روح المجتمع وعمق ثقافته.
مع اندلاع الحرب، تحولت مواقع أثرية بارزة إلى ساحات قتال، وتعرضت لتدمير ممنهج على يد أطراف عدة كما حدث في تدمر، كما نالت الغارات العشوائية من أسواق تاريخية ومساجد تعود إلى قرون خلت، مثل سوق المدينة والجامع الأموي في حلب، فتشوّهت معالمها بشكل كبير.
ولم يتوقف الضرر عند حدود التدمير، بل امتد إلى النهب والسرقة، إذ تم تهريب آلاف القطع الأثرية من المتاحف والمواقع الأثرية إلى خارج البلاد وبيعها في الأسواق السوداء العالمية، كما قامت حفريات غير شرعية بتخريب الطبقات الأثرية وإتلاف العديد من الاكتشافات المحتملة، ما أدى إلى انهيار جوانب مهمة من ذاكرة التاريخ.
الإهمال المؤسسي في عهد نظام الأسد الذي كان شريكاً في تدمير التراث السوري، كان عاملاً في تعميق الأزمة، إذ أدى غياب البرامج الحكومية الداعمة وتهجير الخبرات الوطنية إلى ترك العديد من المواقع بلا حماية أو رعاية، معرضة للتلف والاندثار.
ومع هذا الواقع القاتم، ظهرت مبادرات فردية ومجتمعية لمحاولة توثيق وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، سواء من خلال تصوير المواقع المتضررة، أو عبر جهود دولية لاستعادة بعض القطع المنهوبة بالتعاون مع الإنتربول، كما برزت مبادرات رقمية مثل مشروع “سوريا ثلاثية الأبعاد”، الذي يسعى لإعادة بناء المواقع افتراضياً كتوثيق رقمي موازٍ.
إلا أن إنقاذ هذا التراث يتطلب جهوداً مؤسسية جادة، تبدأ بدعم المبادرات المحلية، وتمر بتثقيف المجتمع بأهمية الإرث الثقافي باعتباره حجر أساس للهوية الوطنية، ولا تنتهي دون التزام دولي فعلي بمحاسبة مهربي الآثار واستعادة المسروقات، وتدريب كوادر شابة مختصة قادرة على صون هذا الموروث.
فالتراث السوري ليس حجارة متهدمة ولا جدراناً متهالكة، بل هو حكاية شعب وسجل حيّ لحضارة إنسانية ضاربة في عمق التاريخ. ففي سوريا وُلدت أولى الأبجديات، وسُجلت أقدم الشرائع، ومنها أشرقت الحضارة. كل حجر في تدمر، وكل قوس في الجامع الأموي، وكل قصة من أزقة دمشق القديمة، تروي للعالم فصلاً من مجد إنساني مشترك.