الثورة أون لاين- د. ذوالفقار علي عبود:
إن تضارب الأهداف الاستراتيجية للولايات المتحدة الأميركية والصين، والطبيعة التنافسية العميقة للعلاقة بين البلدين، قد تجعل الصراع وحتى الحرب، تبدو أمراً حتمياً حتى لو لم يرغب أي من البلدين في هذه النتيجة.
فالصين تسعى إلى تحقيق تفوق اقتصادي عالمي وتفوق عسكري إقليمي على الولايات المتحدة دون إثارة صراع مباشر مع واشنطن وحلفائها، وبمجرد أن تحقق الصين هذا التفوق، ستقوم بتغيير سلوكها بشكل تدريجي تجاه الدول الأخرى، ولا سيما عندما تتعارض سياساتها مع تعريف الصين المتغير باستمرار لمصالحها الوطنية الأساسية. علاوة على ذلك، تسعى الصين بالفعل إلى جعل النظام متعدد الأطراف تدريجياً أكثر التزاماً بمصالحها وقيمها الوطنية.
لكن الانتقال التدريجي السلمي إلى نظام دولي يستوعب القيادة الصينية يبدو الآن أقل احتمالا مما كان أثناء إدارة ترامب، فعلى الرغم من كل الانحرافات والعيوب في إدارة ترامب فإن قرارها بإعلان الصين منافساً استراتيجياً، وإنهاء عقيدة المشاركة الاستراتيجية رسمياً، وإطلاق حرب تجارية مع بكين، قد أوضح أن واشنطن مستعدة لخوض معركة كبيرة مع الصين.
واليوم تشير استراتيجية إدارة بايدن لإعادة بناء أساسيات القوة الأميركية الوطنية في الداخل، وإعادة بناء تحالفات الولايات المتحدة الأميركية في الخارج، ورفض العودة المبسطة إلى الأشكال السابقة من المشاركة الاستراتيجية مع الصين، إلى أن التنافس سيستمر، وإن تم تخفيفه من خلال التعاون في عدد من القضايا المحددة.
معايير مشتركة:
السؤال المطروح على كل من واشنطن وبكين هو ما إذا كان بإمكانهما إجراء هذا المستوى العالي من المنافسة الاستراتيجية ضمن معايير متفق عليها من شأنها أن تقلل من مخاطر نشوب أزمة ونزاع وحرب، فمن الناحية النظرية، هذا ممكن، لكن من الناحية العملية، أدى التآكل شبه الكامل للثقة الصينية بالإدارات الأميركية، إلى زيادة درجة الصعوبة بشكل جذري، وفي الواقع، يعتقد الكثيرون في مجتمع الأمن القومي الأميركي أن القيادة الصينية عازمة على تقييد أيادي خصومها، وكسب الوقت لتقوية بكين عسكرياً وأمنياً واستخباراتياً، لتحقيق التفوق الشامل وإرساء حقائق جديدة على الأرض، ولكسب دعم واسع من نخب السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية، لذلك فإن أي مفهوم لإدارة المنافسة الاستراتيجية بين البلدين، سيحتاج إلى ضمانات مكتوبة من كلا الطرفين لإسناد أي قواعد جديدة للطريق إلى ممارسة متبادلة تتمثل في “الثقة والتحقق”.
ولكن كيف يمكن إدارة التنافس الاستراتيجي بين البلدين؟
ترتكز فكرة إدارة المنافسة الاستراتيجية على نظرة واقعية عميقة للنظام العالمي، فهي تقبل استمرار الدول في السعي لتحقيق الأمن من خلال بناء توازن قوى لمصلحتها، مع الاعتراف بأن القيام بذلك من المحتمل أن يخلق معضلات أمنية للدول الأخرى التي قد تتعرض مصالحها الأساسية للخطر، ولحل هذه القضية، سيتم اللجوء إلى تقليل المخاطر من كلا الجانبين، حيث تتكشف المنافسة بينهما من خلال صياغة عدة قواعد ستساعد في منع الحرب بين الطرفين، وستمكن هذه القواعد كل جانب من التنافس بقوة عبر جميع المجالات السياسية والإقليمية. ولكن إذا انتهك أي من الطرفين القواعد، فستتوقف كل الرهانات على أي تعاون.
وتتمثل الخطوة الأولى لبناء مثل هذا الإطار في تحديد بعض الخطوات الفورية التي يجب على كل جانب اتخاذها من أجل المضي قدماً في حوار موضوعي وعدد محدود من القيود الصارمة التي يجب على كلا الجانبين (إضافة إلى حلفاء الولايات المتحدة) احترامها، فيجب على كلا الجانبين الامتناع عن الهجمات السيبرانية الإلكترونية التي تستهدف البنية التحتية الحيوية، ويجب أن تعود واشنطن إلى الالتزام الصارم بسياسة “صين واحدة”، ولا سيما من خلال إنهاء الزيارات الاستفزازية وغير الضرورية رفيعة المستوى التي بدأتها إدارة ترامب إلى تايبيه. من جانبها، ترى الولايات المتحدة أنه يجب على بكين التراجع عن نمطها الأخير من التدريبات العسكرية الاستفزازية، والانتشار، والمناورات في مضيق تايوان وفي بحر الصين الجنوبي، ويجب أن تلتزم باحترام حرية الملاحة وحركة الطائرات دون اعتراض.
من جانبها، يمكن للولايات المتحدة وحلفائها حينها (وعندها فقط) تقليل عدد العمليات التي يقومون بها في البحر. وبالمثل، يمكن للصين واليابان تقليص انتشارهما العسكري في بحر الصين الشرقي باتفاق متبادل مع مرور الوقت، وإذا تمكن الطرفان من الاتفاق على هذه الشروط، فسيتعين على كل طرف أن يقبل أن الآخر سيظل يحاول تعظيم مزاياه مع عدم تجاوز الحدود.
ستستمر واشنطن وبكين في التنافس على النفوذ الاستراتيجي والاقتصادي عبر مختلف مناطق العالم، وسوف تستمران في السعي للوصول المتبادل إلى أسواق بعضهم البعض وستظلان تتبعا تدابير انتقامية عندما يتم رفض هذا الوصول.
ستستمر الصين والولايات المتحدة في التنافس في أسواق الاستثمار الأجنبي وأسواق التكنولوجيا وأسواق رأس المال وأسواق العملات، ورغم أن الولايات المتحدة تشدد على أهمية الديمقراطية والاقتصادات المفتوحة وحقوق الإنسان وتستغل هذه الشعارات في علاقاتها مع الصين، وستستمر بكين في تسليط الضوء على نهجها تجاه الرأسمالية الاستبدادية وما تسميه “نموذج التنمية الصيني”، ولكن حتى في خضم المنافسة المتصاعدة، سيكون هناك مجال للتعاون في عدد من المجالات الحاسمة، حدث هذا حتى بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في ذروة الحرب الباردة، ويجب أن يكون ذلك ممكناً بالتأكيد الآن بين الولايات المتحدة والصين.
تعاون في المجال السياسي:
بصرف النظر عن التعاون بشأن تغير المناخ، يمكن للبلدين إجراء مفاوضات ثنائية بشأن الحد من الأسلحة النووية، بما في ذلك التصديق المتبادل على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، والعمل نحو اتفاق بشأن التطبيقات العسكرية المقبولة للذكاء الاصطناعي، ويمكن للبلدين التعاون في ملف السلاح النووي لكوريا الشمالية وملف إيران النووي، كما يمكنهما اتخاذ سلسلة من تدابير بناء الثقة عبر منطقة المحيطين الهندي والهادئ، مثل الاستجابة المنسقة للكوارث والبعثات الإنسانية، ويمكنهم كذلك العمل معاً لتحسين الاستقرار المالي العالمي، وخاصة من خلال الموافقة على إعادة جدولة ديون الدول النامية التي تضررت بشدة من الوباء، ويمكنهم بشكل مشترك بناء نظام أفضل لتوزيع لقاحات COVID-19 في الدول النامية.