الملحق الثقافي:ثراء الرومي :
وجهُ المدينةِ شاحبٌ، فالطّرقاتُ حبلى بحلمٍ تجهضهُ كلّ مرّة. ومن يرسمون ملامح الحياة في تلك الطّرقات الواجمة، قابعونَ في منازلهم، واجترار الخيبات وذكرياتِ الماضي البعيدِ، الّتي باتت تَرَفاً لا يُدانى، هو شغلهم الشّاغل.
إنّه الوباء، يحصد الأرواح والأحلام، بل ويحترق معه فتيل أبسط الأمنيات. وباء عالميّ وافدٌ بامتياز، أحال كلَّ مفاصل الحياة إلى هشيم، وكان له فضل السّبق في تجميد حركة الكون بأسره، وإثارةِ الهلع في النّفوس عبر هطل الموت الّذي رافقه، واستطاع أن يغيّر معايير الأفراح والأتراح، وكلّ طقوس العزاء والمباركات الّتي تعاقبت عليها أزمنة طويلة، لتصبح العزلة هي العنوان العريض، ولتصدق نبوءة بعض كبار السّنّ، ممّن كانوا يحبّون الحياة ويردّد كلٌّ منهم في أكثر من محفل: “أخشى أن يأتيَ يوم لا أجد فيه من يخرج في جنازتي.”
أمام كلّ هذا الخراب، يتبادر إلى الذّهن سؤال جوهريّ: “أهو الوباء الوحيد الّذي يتربّص بمستقبلنا كما تربّص بحياتنا واقتصادنا وسعادتنا، أم ثمّة أوبئة أكثر فتكاً؟”. ليحضرَ الجواب على هيئةِ عالمٍ مترامي الدّهشة والتّناقضات، هو عالم النّاشئة الّذين غابت هويّتهم الثقافيّة وسط ظروف الحرب وتداعياتها، والكوارث الّتي تلتها أو رافقتها.. وجدوا أنفسهم عبيداً لشتّى أنواع الشّاشات وما فيها من ألعاب، يرسمون عبرها أحلاماً افتراضيّة لا تُحصى، كتعويض لهم عما لا يُعوَّضُ ممّا سرقته الحرب من مباهج حياتهم، ويَضْلَعون في صراعات دمويّة إلكترونية، تهبهم أدوارَ بطولةٍ مشتهاةٍ ومزيّفة، وتبيح المحظور من مفرداتٍ وأفكارٍ، تدسّ السّمّ في دسم اللّهو والمرح، ليصبح تداول كلمات مريعة من مثل “قتلْتُ” و “ذبَحْتُ” – على خطورته – خبزَ عباراتهم اللّحظيّة.
هل هناك عزلة أكثر خطراً من عزلة الأطفال عن عالم الحكايا والقصص الّذي تتبلور عبرهُ لغتهم وذائقتهم، ويفتح آفاق خيالهم وإبداعاتهم؟. أيّ أجيالٍ ستنشأ بعيداً عن نعمة المطالعة؟. هل سنتعافى من الحرب بدمارٍ أكبر؟.
بكلّ أسفٍ، هذا ما سيحصل في غياب القراءة، وغياب الوعي، أو الاستخفاف بالأمر.. هي صرخة لا بدّ من إطلاقها إلى أعلى مدى، قبل أن يجتاح الطّوفان الرّقميّ كلّ خليّة من أدمغة أبنائنا، ومن الحماقة بمكانٍ أن نسعى لتهميشه كلّيّاً من حياتهم، ولكن على الأقلّ، علينا أن نبذل جهوداً متضافرة ومستميتة، لإدخال الكتاب هذه الحَلَبةَ الكونيّةَ الضّاريةَ بشتّى الطرق، وجعله أهمّ محاور اهتمام أبنائنا.
لعلّ الأسلوب الأمثلَ، أن تكون مكافأةُ الخوضِ في عوالمِ القراءةِ، الدّخول إلى عالمِ الافتراض عبر برنامج أو لعبة، فالأمر أكثر خطورة ممّا قد ينظر إليه البعض، ويتطلّب منّا حَزماً ورباطةَ جأشٍ، فقلّةٌ قليلةٌ من هؤلاءِ يمكنهم اغترافُ ما فيه الفائدة المثلى من هذا المدّ الرّقميّ المريع، بغيابِ رقابة الأهل وتوجيههم، وأجيال كثيرة ستصبح مُغَيَّبةً على هوامش الحدود الدّنيا من الإبداع والإيجابيّة، إن لم نكسر حواجز هذه العزلة، ونكافح ذلك الوباء الرّقميّ بكافة سبل القراءة والمعرفة. الدّرب طويل ومفخّخ بمباهجِ استكشاف هذا العالم الأزرق الّتي تتّخذ طابع الإدمان، وكلٌ منّا من موقعه الأسريّ أو التّربويّ أو الإنسانيّ، يقع على عاتقه النّهوض بهذه الرّسالة السّامية.
وباء كوفيد 19 يتفشّى بما لا يُخفى على العلن، ولا بدّ له من زوالٍ، عاجلاً أم آجلاً، ولكنّ وباء العزلة الفكريّة والثّقافيّة مزمنٌ ومتنكّر بألف لَبوسٍ أزرقَ، فلنتصدّى له قبل أن يتفشّى أكثر في العقول..
التاريخ: الثلاثاء20-4-2021
رقم العدد :1042