الملحق الثقافي:آنا عزيز الخضر:
مساحاتٌ كاشفة استفزّت الكثير من الخبايا التي ما كانت لتخرج، مكتفية بعالمها المكتظّ بالأوجاع والمخاوف من كلِّ شيء.. ضغوطٌ وضغوط، تتفاقم وتتعايش مع جراح الحياة، جنباً إلى جنب، إﻻ أن الانفجار حان موعده، فالضغوط التي كانت فوق الاحتمال، أدّت إلى الجنون ومحطّات البوح والاعتراف.. الجنون الذي انطلق من عقاله، ليقدّم الحقائق ويقول، بأنّ ما حصل، ﻻ يمكن أن يتحمله بشر..
إنه المشهد السوري بأوجاعه، والسبب الحرب اللعينة التي تركت الإنسان السوري في مهبِّ الكوارث، فسجنته في عالمٍ من هذيان، يتدفّق دون هوادة، يعلن الآلام سارداً.. يحكي ويحكي وﻻ ينتهي الكلام، يستحضر الماضي، الجراح، الطموح المهيض الجناح، الأحلام المكسورة، الأمنيات الهاربة، وخيالٌ يتمسّك بالأمل دون طائل، ودون ملامح.
نعم هو الجنون، تلك المساحة الخاصة التي تعني الكثير في عالم الفن، كما في عالم الواقع، لطالما شكّل أرضيّة درامية غنية، اعتمد عليها المبدعون، ليقدموا حقائق حياتيه اجتماعية ونفسية.
هذا هو عالم العرض المسرحي «البوابات»، الذي هو من تأليف «نسرين فندي»، و»مأمون الخطيب»، وإخراج «مأمون الخطيب».
في هذا العرض، كان للجنون مساحة قادرة على كشف أوجاعنا، متجلّية واضحة لا محاباة وﻻ مداراة.. سرديّات تجلّت عبرها كلّ الحقائق كما هي، على لسان مجانينٍ يقولون ما يرون، وما يشعرون، وما يعيشون، دون قيودٍ أو خوف، وﻻ يمرُّ بخاطرهم أيّ حسابٍ مهما كان.
يدور عالم العرض، في مصحٍّ للأمراض العقلية، رغم أن الحوارات توحي أنهم في مطار، يتهيَّؤون للسفر ولحياة أجمل، كما أتى دوماً على لسان الجميع، إﻻ أن الحقيقة مختلفة تماماً، وقد بدت عوالم الشخصيات على حواف، ما بين الهجرة والبقاء، ما بين الخيال والواقع، ما بين الحلم والحياة، ما بين الجنون وقمّة الحكمة، عندما يصطَفون أقوالهم وأفعالهم وحاﻻتهم، فالهذيان أعلن الحقيقة كما هي.
عالمٌ من التحريب، استطاع التحكّم بتوليفته المسرحية، ليقدّم بنية رغم اختلاف المحاور وإشكاﻻت الشخصيات، كلّ منها على حدا، التصوير لملامح مجتمعية شعر بها المتلقي، ووجد نفسه بين عوالمها وتفاصيلها، لأنها اقتربت منه، ومن همومه ومشكلاته في أزمان مختلفة، وأماكن مختلفة، خصوصاً أن كلّ شخصية أثناء بوحها، تحدّثت عن ماضيها وحاضرها وطموحها وأحلامها، وهو ما جعل العرض، يتمكّن من نقلِ الكثير من الملامح التي جثمت على قلوبنا، خصوصاً في فترات الحرب التي أدخلت الخلل على نفوسنا وأرواحنا.
حول العرض، وبعض تفاصيله، تحدّث أحد أبطاله. الفنان «سليمان رزق» الذي قال لنا عن هذا العرض، وعن دوره فيه:
«أقوم بدور عازف ساكسفون أكاديمي، أدخلته والدته مشفى الأمراض العقلية، بسبب إصابته بمرضِ الذهان / نتيجة ظروف الحياة التي مرّ بها / وهو عدم قدرة الفرد على التمييز بين الواقع وما يتخيله، أي (الهلوسة)، حيث يعاني المريض من أفكارٍ واعتقادات غير صحيحة أو واقعية، ويؤدي هذا، لوجود الهلوسة السمعية، أو خطل السمع، وهو نوع من أنواع الهلوسة، ويتصف بإدراك الصوت من دون منبّهٍ صوتيّ.. كلّ هذا، جعل المريض شخصاً متوتّراً بشكلٍ دائم، داخل لعبة البوابات، حتى تصيبهُ نكسة، فتبدأ الكارثة.
الحقيقة، وبالنسبة لعالم الشخصية، فإن لديّ مخزون معرفيّ كبير بالشخصيات المريضة، أمراض عقلية أو نفسية أو جسدية، لأنني أرغب بالقيام بهذه الشخصيات، التي تُظهر إمكانيات الممثل، ولم يعذّبني الدور حتى أكتشفه، لكن صعوبة الأداء، كانت بسبب التوتّر العالي في الشخصية، وإيجاد أفعالٍ منطقية لظروفه، رغم أنني أدخل في أدواري، وفق خطوات تبدأ بقراءة النص مراتٍ عديدة، قراءة حياديّة قبل بروفة الطاولة، وأحاول تجربة أكثر من توجّه للشخصية في بروفة الطاولة، ثم أسعى لإيجاد هدف الشخصية، ووضع ظرف الشخصية ما قبل المسرحية، على أساس هدفها، أيضاً، وضع تاريخ الشخصية المناسب على أساس ظرف الشخصية، ثم تجربة أكثر من توجُه لها على الخشبة، ومن ثمّ علاقتها مع الشخصيات الأخرى، بعدها، إيجاد تفاصيلٍ خاصة بها.
طبعاً، يوجد تفاصيل كثيرة بين هذه الخطوات، خصوصاً أنه لهذه الشخصيات نموذجية وملامح، تحتاج للتركيز الكبير، والعرض بمجمله، له خصوصيّته وبيئته وأسلوبيته التي استطاعت باقتدار، التوفيق بين عالمها التجريبي ومضمونها، حيث سارت الشخصيات وتطورت الصراعات والحوارات والأفكار، وفق آلياتٍ فنيّة، لها عالمها الخاص جداً، وتقنياتها المتفردة».
التاريخ: الثلاثاء20-4-2021
رقم العدد :1042