الظروف العالمية المعقدة، تجمع بين متناقضتي ( السلم والحرب)، هناك سقف تهديد عال من قبل الولايات المتحدة ضد خصومها الدوليين، وبنفس الوقت ثمة ميل أميركي واضح للتهدئة، وهذا ينطبق كذلك على الدول التابعة للسياسة الأميركية، فهي تردد صدى التهديد والتهدئة في آن معا، وبحال ترجيح كفة التهدئة، والجنوح نحو إيجاد حلول للأزمات الدولية من خلال الحوار والدبلوماسية، وهو الأمر الأكثر توقعاً، فهذا سيكون سببه العجز والإفلاس الأميركي، وليس من باب الحرص على الأمن والاستقرار الدوليين، لأن هذه المسألة لم تشغل يوماً بال الأميركيين وحلفائهم، حيث تحقيق مصالحهم الاستعمارية اقتضت على الدوام إشعال الحروب، والقفز فوق كل القوانين والمواثيق الدولية.
التصريحات والمواقف الغربية تجاه الملفات العالمية الأكثر سخونة، يغلب عليها ما يمكن تسميته طابع التسليم التدريجي بالواقع الدولي الجديد، ولكن من دون التخلي عن الذهنية الاستعمارية التي ما زالت تحكم عقلية القائمين على السياسة الغربية، لاحظوا خطاب جو بايدن أمام الكونغرس قبل يومين، حيث عاد للعزف مجدداً على نغمة التهديد بفائض القوة الأميركية الغاشمة، فأعلن بأنه سيعزز الحضور العسكري لبلاده في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وفي أوروبا أيضاً، وهذه رسالة تهديد معلنة للصين وروسيا، ولكنه أشار في الوقت ذاته إلى أنه لا يسعى للتصعيد مع كلا البلدين، ووجه أيضاً رسالة تهديد مبطنة لكل من إيران وكوريا الديمقراطية على خلفية برنامجهما النووي، ولكن من دون أن يغلق باب الحوار والدبلوماسية معهما، وفي المقلب الآخر نجد الدول الأوروبية تصعد حربها الدبلوماسية مع روسيا بالتوازي مع تزايد التحركات العسكرية لـ “الناتو” على حدودها من البوابة الأوكرانية، ولكنها تزعم في الوقت نفسه أنها لا تسعى للتصعيد، وتقر بأن روسيا كانت ولم تزل لاعباً أوروبياً مهماً، ولا يمكنها الاستغناء عنها، وكل تلك التناقضات في التصريحات والمواقف، هي مؤشرات ودلالات قوية بأن الغرب بات يخشى المواجهة العسكرية المباشرة، ووصل لقناعة كاملة بأن النتائج لن تكون في مصلحته، هو فقط يرفع مستوى التصعيد، لتحسين شروط التفاوض في العديد من الملفات الإقليمية والدولية، وليس بهدف الوصول إلى حرب شاملة ومفتوحة، ليس بمقدوره أن يحتملها.
إذا نظرنا للتراجع الأميركي عن تقديم مساعدات عسكرية عاجلة لأوكرانيا- وهو ما جاء على لسان مستشار البيت الأبيض للأمن القومي، جيك ساليفان- فهذا يشير إلى بداية انكفاء سياسة التصعيد الغربي ضد روسيا، كبادرة حسن نية علها تمهد لقبول الجانب الروسي عقد لقاء قمة بين بايدن والرئيس فلاديمير بوتين، والتي باتت واشنطن أكثر حاجة لعقدها، وبالتزامن جاء إعلان البنتاغون على لسان النائبة الأولى لوزير الحرب الأمريكي، كاتلين هيكس بأن اندلاع النزاع بين الولايات المتحدة والصين ليس أمراً حتمياً، وأن ثمة مجالات عدة للتعاون ستسهم في تفادي هذا النزاع، وهذا ربما يشير إلى خشية أميركا وأتباعها من أن تقود سياسة التصادم مع القوى الكبرى الصاعدة إلى تحجيم دور الغرب ونفوذه على الساحة العالمية، وأن مسار التسويات قد يحفظ بعض المكانة لهذا الغرب.
مؤشرات التهدئة، والجنوح نحو التسويات المحتملة، يمكن أن نلمسها أيضا من اللهجة “التصالحية” الجديدة للنظام السعودي تجاه الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فهذا النظام هو رأس حربة متقدمة للمشروع الصهيو-أميركي في المنطقة، ومن ألد أعداء الاتفاق النووي، وإذا قارنا هذه اللهجة الجديدة مع عودة الوفد الأمني الإسرائيلي من واشنطن بخفي حنين، فسندرك أن ثمة رضوخاً أميركياً وغربياً للشروط الإيرانية في فيينا، وهذا يعني أن إعادة إحياء الاتفاق النووي، سيترتب عليه تسوية محتملة تهدئ لاحقاً مجمل الأوضاع المتوترة في المنطقة ككل، فإذا رضخت الدول الغربية لمطالب إيران المحقة، فما الذي يمنعها من الرضوخ أيضاً للحقوق المشروعة لدول محور المقاومة التي تحارب الإرهاب والاحتلال، وتدافع عن سيادتها وقرارها الحر المستقل.
نبض الحدث- بقلم أمين التحرير ناصر منذر