الملحق الثقافي:ثراء الرومي:
أغمس قلمي في دواتي لأكتب، فتتوالى الصّور في ذهني. على كلّ مفترقٍ في العمر حكايةٌ، بل حكايات. وفي كلّ دربٍ قصّةُ وجعٍ وألمٍ وأملٍ وصهيل أمنياتٍ، ترسم ملامح شجرة الأيّام. كم من الأوراق تساقطت وبعثرتها الرّيح، ولم يقرأ من اغتنموا تلك الرّياح الّتي هبّت، سوى شاعريّة المشهد وجماليّته. لم يقرؤوا سورياليّة الوجع الكبير في هذا المشهد، ولم يسمعوا صرخة اللّون الأصفر الّتي تفترش أرض الرّوح.
أوراق كثيرة تذروها الرّياح، وتحمل معها ألف علامة استفهام: «إلى متى؟.. وإلى أين تمضي بنا تلك الرّياح؟.»
تتشابك هويّات الوريقات وأعمارها على اختلافها، كما تتشابه تفاصيل تخلّي الأغصان عنها، لتتشابه معها ملامح من ركبوا الموجة، ومن فصّلوا لنا أثواب البؤس الّتي نرتديها، والمفارقة أنّنا نشتريها من بعضهم بأغلى الأثمان. والأسئلة الّتي تطرح نفسها بمنتهى الألم: كيف لنا أن نشتري بؤسنا؟».. من يعيد إلينا سنوات تتسرّب من بين أصابعنا من دون ملامح؟.. من يعوّض لأطفالنا ألعابهم المشتهاة وطفولتهم المسروقة؟..
لطالما ارتبطت صورة الشّيطان بكائنٍ بشعٍ يأنف المرء النّظر إليه، ولكنّ شيطان هذا العصر يتّخذ ألف لَبوس. شيطانُ هذه الأيّام كائنٌ عصريٌ يرتدي بزّة في غاية الأناقةـ ويدّعي تبنّي أكثر من رسالة. شيطان هذه المرحلة يضع قناع الطّيبة والخير، وتحت مسمّيات لا تُحصى يشتري أعمارنا ويصادر حتّى البريق في أحلامنا.
كم من أدمغةٍ عبقريّة مكبّلة في بلادي تنتظر من يضيء في طريقها ولو شمعة صغيرة؟. كم من أفكارٍ اقتصاديّة خلّاقة مدفونة في سراديب البيروقراطيّة الّتي تجعلها تتعثّر في كلّ خطوة؟
كم من أصحاب فكرٍ متّقد، يبحثون لفكرهم في الأدب والفنّ والتّرجمة، عن مهجرٍ يليق بها ويجزيها حقّها وقد ضاقت بهم ذات اليد.
ثمّة أقلام صامدة، وإن كانت بالكاد تقطف شيئاً من ثمار أفكارها النّضرة، ولكنّ ولاءها لهذه الأرض يحدو بها ألّا تنعت الشّجرة بأيّ وصفٍ لا يليق بها، فهي تقدّر كم هي الرّياح عاتية، وكم يتطلّب الصّمود في وجهها من تحدّيات وتضحيات..
كم من أحلامٍ وُئدَت في مهدها، ولا يملك من خسروها ترف إقامة مجالس عزاءٍ لها، فالحياة أسرع من أن تقف عند خيبة هنا ووجع هناك، واللّهاث خلف لقمة عيشٍ عزيزة، أصبح قاسماً مشتركاً بين من لا يتقنون ركوب الأمواج..
كلّ الدّروب تؤدّي إلى طاحونةٍ واحدة هي المال، الّذي تطحن عجلته كلّ شيء في طريقها. المال بات سيّد كلّ المواقف دون منازع. يقال إنه «وسخ هذا العالم»، ولكن كم هو مُوجعٌ أن يتحكّم أسياد هذا (الوسخ) بمصائرنا، ويرسموا لنا ملامح أيّامٍ بنكهة العلقم…
كثيراً ما نقارن بما يشبه الهذيان، بين ما كنّا نستغربه أطفالاً وما يعيشه أطفالنا اليوم، فينتابنا العجب. كنّا نجد بالمصّادفة ورقة أو دفتراً قديماً لأهالينا وعليه أسعار بعض مشترياهم في غابرِ الخير، وكم كنّا نضحك من الأعماق لغرابةِ الفارق، بين أمسٍ لم نعشه ويوم مختلف كلّيّاً. ولكن أن يعيش أطفالنا حالة المقارنة تلك بين أمسهم القريب ويومهم الّذي يليه، فذلك منتهى الفجيعة.
أن يجد كلّ منّا نفسه يشعر بالعجز أمام متطلّباتٍ بالكاد تسدّ الرّمق أو تغلق شقوقاً في بدائل النّوافذ المهشّمة، فلا مكان عندها سوى لسورياليةٍ موجعة، وكوميديا سوداء تليق بالموقف.
من ينصف أعمارنا ويردّ الرّوح لما تبقّى من آمالنا؟.. من يوقف زحف الرّيح العاتية الّتي تستمدّ فرحتها من صورٍ لها وهي تعبث بمصائرنا وتنفخ بلؤمٍ على أجمل وريقات أعمارنا؟..
أخبروا الرّيح أن تتوقّف عن عبثها، فنحن، ورغم كلّ فجائعنا، «نحبّ الحياة ما استطعنا إليها سبيلاً»…
التاريخ: الثلاثاء11-5-2021
رقم العدد :1045