الملحق الثقافي:حوار: إلهام سلطان:
«الفن هو حياتي، مبادئي، الهواء الذي أتنفسه.. هو ارتقاء نفسياتِ الشعوب.. أينما تجدُ الفنّ، تأخذ فكرة عن حضارةِ هذا الشعب.. في فترة الحربِ والوباء، حوّلت وقتي إلى طاقاتٍ إنتاجية، لأثبت أن الفنّ السوريّ، مازال ينبضُ في هذا البلد».
هذه العبارات هي الأبجدية الفنيّة للنحّات «أكثم عبد الحميد». أبولودور النحت الذي لم يغادرنا، لطالما بقيت أنامله ترسم منحوتاتها الإبداعية في الحدائق النحتيّة السورية، وتنثرها على طول الساحل اللازوردي، منارة للأجيال القادمة.
نعم.. عندما يتكلّم الفن، تكون هناك لغة أخرى في الحياة. لغةٌ أقرب ما تكون للضوء، للنور، للخيال، للحضارة، للفكرِ، لتعابيرٍ ترسم مسارات الإنسانية وتلوّن ألقها.
في حوارٍ مع هذا النحّات السوريّ-العالميّ، رسم لنا رحلة إبداعه، وعلاقته مع الفنّ والنحت، مع الكتلة والفراغ، والضوء الذي يلوّن منحوتاته، والتوهج الذي يقدّ فكره، بل الفضاء الذي زركشهُ بجماليات الطير، المرأة، الأبجديات، الملحمة، العائلة السورية، السفينة، الفكر، الرموز السورية التراثيّة.
عوالمٌ تكوّنت منها مملكة إبداعه
«نحن أبناء حضارة، أبناء تاريخ. بلدٌ يعوم على كنزٍ من الحضارات، ولكن للأسف لا نعرف كيف نظهر هذه الحضارات، ولا كيف نسوّق هذه الحضارة، أو حتى نستثمرها بشكلٍ ثقافيٍّ وسياحيّ.
بهذه الكلمات بدأ كلامه، ليحدّثنا بعدها عن أعماله الفنيّة، داخل وخارج سورية».
– لا يوجد بلد في العالم، إلا وتوجد فيه أحد أعمالي النحتية. أي أن النحت السوريّ موجودٌ في كلّ مكان، ومن خلال الملتقيات التي كنا نقوم بها خارج سورية، كنا ننشر الثقافة السورية، الفن السوري، الفكر السوري، الحضارة السورية، وفي كلِّ ملتقى نقوم به، يكون معنا صور منحوتات لفنانين سوريين، وصور عن التراث والحضارة السورية، نعرضها حاملينَ الثقافة الفنية السوريّة إلى العالم.
أجمل الأعمال في حياته: الحدائق النحتيّة السوريّة
الحدائق النحتية، هذه البصمة السورية الرائعة، هي منجز حضاري سوري بحت في الأندلس، في مدينة المونيكر بالأندلس، في اسبانيا، على البحر المتوسط، هذه المدينة تعتبر أول مدينة يدخلها عبد الرحمن الداخل، الملقب بصقر قريش.
لقد نصبَ عمدة المدينة، تمثالاً من البرونز لهذه الشخصية، ووضعه على مدخل المدينة، والأختام التي يختم بها الأوراق الرسمية، وكذلك لوغو المدينة، هما منحوتة لرأس عبد الرحمن الداخل، إنهم يجيدون الاستثمار الثقافي والسياحيّ، من وراء الآثار السورية الموجودة في هذه المدينة.
لقد قمت بستّة ملتقيات، وكنتُ حريصاً أن تكون حصراً، من خلال فنانين سوريين، وأن تكون الثقافة سوريّة بحتة، أنجرت أربعة ملتقياتٍ منها، وهي عبارة عن منحوتات ضخمة، واسمها الحدائق النحتيّة السوريّة، يرفع عليها سنويّاً، العلم السوري.
المنجزُ من الملتقى الخامس، وضعناه على البحر الأبيض المتوسط، ومن الملتقى السادس، وضعناه في ساحة تسمى ساحة دمشق.
وضعت المنحوتات في هذه الساحة، والعلم السوري كان يرفرف فيها باستمرار، فقد أصبحت هذه المدينة ميداناً للثقافة السورية، وكنت حريصاً في كل ملتقى، أن يكون معي نحّاتة سورية، لإعطاء فكرة عن السيّدة السوريّة، ودورها في المجتمع وفي بناء الحضارة.
المواد التي يصنع منها منحوتاته
كلّ الحدائق النحتيّة، من الرخام والحجر، كنّا نجلبها من مدينة الماريا على البحر الأبيض المتوسط، وننحتها ضمن الحدائق ثم نوزعها، وكانت الصحافة تتابعنا باستمرار، وفي نهاية الملتقى يقدم الصحفيون «سي دي» لكلّ فنان، عن مجمل أعماله، من شدّة محبتهم وإعجابهم بالفن والفنانين، وكانوا يستقبلوننا دائماً بابتسامة، وكلمات الإعجاب: «أنتم تصنعون في بلادنا الجمال والفرح».. كنا نشعر بالاعتزاز، وبأننا من دمشق، بلد التاريخ والفن والحضارات.
الرسالة التي قدّمها عبر منحوتاته
المنحوتات أغلبها يحمل الطابع السوري، المرأة السورية، الموسيقا السورية، المفردات التراثية من الحضارات السورية، لذلك كانت منحوتاتنا غريبة عن المنحوتات الأوروبية الموجودة في هذه المدينة.
لقد أخذت منحوتاتنا طابعاً جمالياً خاصاً، لأن الأوروبيين معروفون بأنهم مدرسة واحدة هي مدرسة التجريد، أما نحن كسوريين، فكان لنا مفردات خاصة في هذه الملتقيات، وهذا ناتج عن مخزوننا التراثي، والفكري، والثقافي، الذي نهلناه من كلّ ذرة تراب في سورية.
فكرة عن المعرض المقام حالياً «مراحل إبداعية 2021»
خلال العشرين سنه الأخيرة، كنت متّجهاً بأعمالي خارج سورية، لنشر الثقافة السورية، ولصناعة الحدائق النحتيّة السورية المعلّقة.
في هذا المعرض، الإنتاج كله خلال 2019 /2020 وبداية 2021، وأكثر من ستة أعمال هي من السنوات الماضية …..
في فترة انتشار وباء الكورونا، بقيت في سورية، وحولت وقتي إلى طاقات إنتاجية، كنت أعمل واضع جانباً لأثبت أن الفن السوري مازال ينبضُ في هذا البلد، بالرغم من الحرب والوباء.
في هذا المعرض عملت على أربع خامات، وفن النحت هو فن الخامات، وفن المجسمات، عملت على البازلت وأخرجته من لونه الطبيعي، وبقيت أعمل عليه حتى أخرجت المعادن منه، وغيرت لونه.
اشتغلت ستة أشهر على تقنية البازلت، وتوقفت لفترة، ثم عملت على الخشب، وعندما أنتهي من الخشب أذهب الى الرخام، وعندما أنتهي من الرخام أذهب إلى البرونز، قدمت كل ما يتعلق بالنحت من التكوين، إلى العمل الجداري.
في مرسمي الجديد، الذي يحوي الهواء الطلق، أصبحت أعمل منحوتات ضخمة من الرخام والبازلت، أما في السابق، فكنت أعمل على الخشب والبرونز، ضمن مشغلي القديم، الذي هو عبارة عن قبو تحت الأرض….
في معرض مراحل إبداعية الجديد، كان مهمّاً أن أقدم عدة تقنيات، البازلت والرخام والخشب والبرونز، واستخدمت عدة أنواع من البازلت.. بازلت السويداء وحمص واللاذقية، وأيضا أنواع من الخشب. خشب الزيتون وخشب رومي وخشب الليمون.
منحوتاته في معرض مراحل إبداعية….
المنحوتات أتت من خلال المراحل متتابعة، الجديد في هذا المعرض البازلت والرخام ومراحل إبداعية، معظم الأعمال كانت خلال هاتين السنتين، وبعضها خلال السنوات الماضية، ومهمٌّ جداً عندي موضوع المرأة، لأنها سيدة المجتمع، وكل الرموز النبيلة موجودة فيها، ولهذا أحمّلها كلّ معاني التعبير الجمالية الإبداعية في أعمالي، ولأرفع من شحناتي التعبيرية، من الولادة، الحنان، العطاء، الخصوبة، وكلّ شيء جميل…
إذا عدنا بالإنسان إلى طفولته، الأم هي المدرسة الأولى في حياته، ووجهها هو أوّل ما يبصره، ويعيش معها في كلّ حالاتها: الحزن، الفرح، الألم، لذلك قيمة المرأة الحقيقية، هي قيمة العاطفة، نأخذها من طفولتنا من الأم، نعم، الأنثى هي سيدة المجتمع، وهي العنصر الأساسي الذي أعبّر من خلاله، عن كلّ القيم الجمالية في الحياة…
الجديد في هذا المعرض هو العائلة السورية، وهو ما كرّسته في كل ملتقيات النحت في أوروبا، ليصبح حواراً حول موضوع العائلة السورية، فخلال الحرب كانت العائلة السورية هي المستهدفة، لضرب المجتمع السوري وتفكيكه، وأنا حاولت دائماً، تشكيل هذه العناصر العائلية بأعمالي، من خلال الرخام، البازلت، الخشب، البرونز.
أخذت الشكل الهندسي وبنيت مدينة، ثم أضفت لها العناصر الإنسانية التي لها علاقة بالأسرة. ربطت العائلة بالمدينة، بعلاقة انتماء وحب واحتضان للوطن، وعدم غربة عنه.
هذا هو موضوعي الرئيسي، بالإضافة إلى كثير من العناصر التي تتَّبع حضاراتنا. مثلاً: الثور الذي يمثل القوّة والخصوبة والرصانة، رموز متداولة بعدة حضارات سورية.
عملت على البساطة والاختزال، وعلى الشكل الخارجي للمنحوتة، وأظهرت الثور بشخصية جديدة، تختلف عن جميع زملائي الفنانين…
المرأة في منحوتاته
أخذت عملي الضخم الذي يجسد المرأة بشعرها المتموج، من بيئتي الساحلية، فالشعر المتموج، بانحناءته، هو دليل العاطفة.
هذا العمل بالذات، نحتّه بشكل مثلث يبدأ بزاوية وينتهي بانفراجٍ كبير. لقد اختصرت فيه الكثير من الأشياء والتفاصيل، فهذا الشكل المثلّثي عرفت به، والعيون تشبه عيون والدتي، وفيها عمق إنساني، عاطفة وحنان وأحزان.
أيضاً، هناك منحوتات للمرأة تمثل الشموخ الإنساني السوري، والسمو والرفعة للإنسان والثقافة والحضارة السورية. شاركت بهذا بمهرجان المحبة، وأعمالي مقتناة، من قبل وزارة الثقافة السورية.
أتمنى تنفيذ هذا العمل على جبل قاسيون، بارتفاعات ضخمة، وامتدادات كبيرة. بإضاءةٍ خارجية وأخرى داخلية، وممكن أن يكون من البرونز، أو صفائح معدنية.
عبرت عن الوجوه الإنسانية بعدة احتمالات، منها الشكل المسطح، والمربع، والدائري، ولعبت على موضوع الشعر بتقنياتٍ مختلفة..
أسعى دائماً في أعمالي، للعمل الملحمي، لأنه يعبّر عن دورة الحياة، بكل المجالات السياسية، الثقافية، الاجتماعية، الاقتصادية. لذلك تجدين في العملِ النحتيّ، تشكيلاً إنسانياً، مع حيواني، مع نباتي، مع طير، بحيث يكون عملاً متكاملاً……
البعد الرابع في منحوتاته.. وتقنيّاته الخاصة به
النحت هو الأبعاد الثلاثة، وأنا أضيف له البعد الرابع، وهو الضوء. أفعل ذلك من خلال إدخال الغرافيك «المزج بين الكتلة وإعادة الضوء»، على النحت، وهو إضاءة جديدة، وتعلو المرتفعات بالشكل، وأنا أتميّز بها. الكتلة والفراغ هي التي تعطي الظل والنور.. آخذ الكتلة والفراغ في المنحوتة، وأحاول أن أضيف لها الضوء، أي البعد الرابع.
في النحت أستعمل أدوات خاصة، ديسكات تنعيم ورقية، وهي درجات بأرقام معينة، ويوجد براشات برؤوس الماس صغيرة، أعيد صياغة اللون على حواف الكتل، حتى أحدث ضوء. أي إعادة صياغة الضوء على النحت….
آخر ما أود قوله: أتمنى من وزارة التربية، وجميع المدارس التربوية والتعليمية، دعوة الطلاب لزيارة المتاحف في بلدنا. ذلك أنها تعرّف الأطفال بحضارة هذا البلد، وتعلّمهم احترامه واحترام تاريخه وتراثه، وتقوي عندهم حسّ الانتماء..
التاريخ: الثلاثاء18-5-2021
رقم العدد :1046