الملحق الثقافي:سهيل الذيب :
اللافت لدى الشّاعرة الإسبانيّة الأصل “جوزفين كوزاك”، عنوان ديوانها “سكرتُ بكأسها”، وهو لمجموعةٍ شعرية، تقع في نحو مئتيّ صفحة، وتحتوي على أكثر من مئة قصيدة، وشّتها بغلافٍ يجسّد أفول الشّمس من ريفٍ، أغلب الظنّ أنه من الريف الإسبانيّ. خيولٌ وأرضٌ جرداء، وشجرة تعرّت من أوراقها، وطاحونة هواء تشي بأنّها طاحونة “دون كيخوتي دي لامانتشا” للروائي الاسباني “ميغيل دي ثيربانتس” التي نشرها على جزأين، بين 1605 و 1615 والتي تعني محاربة طواحين الهواء، تلك الفكرة التي تؤكّد عبثيّة الحياة، ولا أعرف إن أرادت “جوزفين” ذات الثمانية والثمانين عاماً، التعبير عن خواء الحياة برمزيّة الطواحين، علماً أنني رأيتها نضرة الوجه والفكر واللسان، وأنّ الأمل يحدوها بعمرٍ طويلٍ أتمنّاه لها، وخاصة أنّها ما زالت تكتب الشّعر وتلقيه على مسامعنا، جذلى بمفرداتها وقوافيها ومعانيها وبحورها.
لا ريب عندي أنّ الشّعر يطيل العمر، ويبعث على الحياة ويجدّدها، وهو كالمضاداتِ الحيويّة لمصاعب الحياة، وهو إلى ذلك أمل لا تستطيع أشعة الشّمس الحارقة إخماده في نفس الشّاعر والمتلقّي بآن معاً. وأنا لا أستطيع التخمين كيف سيكون شكل الحياة من دون الفنون جميعاً، وأخص الشّعر منها، وعلى هذا فالشّعر هو النصف الآخر من الحياة، وهو المسوّغ الرئيس لجمالها واستمراريتها، ولولاه لكانت صحراء قاحلة.
كلّما زرتها رأيتُ بقايا الأندلس، ولاس بالماس، إحدى جزر الكناري الإسبانية، على وجه الطفلة القديسة “جوزفين”، حيث غادرت بلدها الأصلي إثر الحرب الأهليّة الإسبانيّة، وعمرها ثلاث سنوات، لتعيش بين أصولها الأرستقراطيّة، وفقر منطقة “الكفارين” التي هي إحدى قرى صافيتا، مفارقةٌ بالغة الدلالة، سبّبت لها عدّة صعوبات، منها عدم القدرة على التأقلم، وعدم القدرة على نطقِ كلماتِ اللغة العربيّة، ومن ثمّ تندّر التلاميذ بلفظها، ومن المصادفات الحسنة اكتشاف تفوّقها في سنٍ مبكرة، فعُيّنت في الرابعة عشرة من عمرها، معلمة في جزيرة أرواد. سافرت بعدها مع والدها إلى فنزويلا وانغمست في مطالعة عيون الكتب، من “وفيات الأعيان” لابن خلكان، إلى رسالة الغفران للمعري، وقرأت بتعمُّق شكسبير وهمنغواي وداريو بالإسبانية والإنكليزية، واستطاعت بعد ذلك أن تقدم أطروحة الماجستير في جامعة القديس يوسف “اليسوعية” ببيروت، وعنونتها بـ “المادية عند ابن باجة”، لنعجب بعد هذا بتعلّقها بالعرب والعروبة، ولا سيما بالقضيّة الحزينة، قضية فلسطين.
هذه الشجرة وارفة الظلال، التي تركت الحياة الزوجية وهي في الرابعة والعشرين من عمرها، بعد أن أنجبت صبيّاً وحيداً، سيكون مصدر تجدّد حياتها، وبعث الرجاء فيها، تقول في ديوانها “في انتظار الموعد”:
ولدي ويأخُذني الزَّهو نشوى أروحُ وأغتدي
ولدي وشَعشعت الحياةُ بسحرِ نورِ السَّرمد
ولدي أزهير بلادي في رؤى الفجرِ الندي
في صوتهِ نغمُ الصُّمود، صمودُ شعبي الأصيدَ
لاحظوا كيف شغلها وطنها وعروبتها عن ابنها الوحيد، في هذه القصيدة التي خصّتها له، وهذا يدلُّ على مدى علاقتها الوثيقة بوطنها أولاً، ومن ثمّ بكلِّ ما يرتبط بهذا الوطن.
هذه الشجرة المثمرة، أنجبت من رحمِ ذوقها وفكرها وذكائها الوقّاد، ما ينوف عن العشرينِ كتاباً، بين نثرٍ وشعرٍ وترجمة عن الإسبانية والإنكليزية، ومربط خيلنا هنا، أنه لو أتيح لها من يعتني بها وبشِعرها، لكانت واحدة من أهم الشاعرات العربيات، ولا سيّما أنّها أجادت اللغة والنحو والصرف أيّما إجادة، فبدا شعرها لجزالته، كأنه تسرّب من بين يديّ أبو تمام والبحتري، جزالة ورقّة.. تقول عن نفسها فيما يخصّ حياتها الشخصية: “قضيت أسيرة أقوال وعظات، منكفئة داخل حلقةٍ ألفتها، ولم أجرؤ على مغادرتها أعاني حدّة الالتزام وشدّة الاحترام. اغتربتُ فترة من عمري، ورأيت وعايشت ثقافات وأنماط حياة مغايرة، متحرّرة لم أعبأ بها، محافظة منغلقة على تربيةٍ دينية إنشائية غيبية”.
أتاها وحي الشّعر والإبداع صغيرة، وأبى ألاّ يخرج إلاّ من حرقة القلب وحرقة الوجد، بعد أن كان حبيساً في الصدر والأدراج، وانفجرت ثورة على نظم التدريس والدراسة والتسييس والسياسة، ومتعصبيّ الدين وادّعاءات القيم والكياسة، وراح قلمها ينفث آهات الكبت والتزّمت، وينتقد الثوابت والنظريات وريثة عصرها التي آن لها أن تستريح، بيد أن حسناته جاءت نتيجة كمٍّ معرفيٍّ وفلسفيٍّ وحياتيٍّ باذخ الثراء والعطاء.
أهم ما يميز شعر “جوزفين”، جزالة لغتها ورصانتها، إضافة إلى رقّة معانيها واستنباط معاني محدثة، فمن ديوانها “أغنيتي” تقول ساخرة من الذين حوّلوا الدين إلى تجارة:
قد حوّروا وحوّلوا معنى التحرّر والفداء
واستبدلوها باقتتالاتٍ بأصنافِ العداء
ساروا تنادوا ينصرونَ الله
لا حبّاً بدينٍ لا.. ولا ولاء
بل في سبيلِ الملتقى بالعين
من حورِ السّماء
وتقول في قصيدة “أعانيها” من الديوان نفسه:
ألمٌ ولا ألم أعانيه ظما
وجراحات نزيفاً من دما
يا لآلامي إذا لم نلتق
واللقا زادَ ظمأي ألما
ترعوي عنّي وعينايّ ترى
جائحاتٍ في بلادي ضرّما
وما يلفت الانتباه في شعر “جوزفين”، أنه من الصعب أن تجد قصيدة لم توشّيها بالوطن حباً وعتباً وشغفاً، فكأنّ الألم الشخصي، ارتبط ارتباطاً وثيقاً بألم الوطن، فاستحوذَ على الشّاعرة استحواذاً كلياً:
فجأة يجتاحني موج البكاءِ ويسيّرني إلى حيثُ يشاء
زلزلتني نكبة لم ترعو هدمتْ عمري وأركان البناء
يا بلادي يا مهادي مزّقي سجف الليل وسيري والضياء
أصدرت “جوزفين” ديوانها الأول “في انتظار الموعد” عام 2008 وأعقبه مباشرة “عبق الأيام” وفي العام 2010 أصدرت ديوان “رجع الحنين” ومن ثم “مرايا الرفيف” وتتابعت دواوينها وكتبها، وكأنّها أرادت أن تعوّض ما فاتها، فأنتجت بغزارة.
هذه القادمة من لاس بالماس، أغرمت بالعربية شعراً ونثراً وحياةً، وأكثر ما سحرها من شعراء العرب، المتنبي، وطه حسين كاتباً وناقداً وأديباً. وترى أن الشّعر هو: فيض الذات المملوءة بالألم، نزيف قلب، وجيع من جمال وقبح، توقٌ وأملٌ ومصير، ومن غريب استشرافها وصفها المرحلة الراهنة بأنّها أزمة نموّ لا انهيار، وتدفع ضريبة تقدم له إشكالياته، وخيارنا الوحيد الاندماج في التاريخ بمعناه السيروري لا السكوني، وبأننا بأمسِّ الحاجة لاعتماد نهجٍ يقضي على التخلف، وما لم نتحرر من التوفيقية التلفيقية، فلن نستطيع تغيير الواقع، لذلك فالإنشائيّة لا تملك حلولاً.
قلت لها حين زرتها في بيتها: كم أنت جميلة! فبكت. كم أنت حساسة! فبكت. كم أنت تعشقين سورية! فبكت. فاستنتجتُ أنّها قدّت من حزنٍ وبكاءٍ على عمرٍ تولىّ، وعلى حاضرٍ لا يسرّ.
أُنهي بقصيدةٍ لهذه الشّاعرة المُفعمة بالحبِّ والجمال، والأشبه بربّات الجمال اليونانيات.. قصيدة من ديوانها “سكرت بكأسها” وتقول فيها:
قالوا تحبّ الشّام قلت حسبتها معبودتي سحراً ولا مثل
سبحانها أرضاً سماءً جنّةً يزكو بها الياسمين والفل
ويهلهلُ الوردُ الشآميّ بها لوناً وعطراً ساحراً يجلو
فرضت عبادتها عليَّ وقدّسها قدوسها يعلو بنا يعلو.
التاريخ: الثلاثاء1-6-2021
رقم العدد :1048