الخلطُ المنهجي ما بين الحداثة وما بعدها.. في الثقافة العربيّة المعاصرة

 

الملحق الثقافي:د. عدنان عويّد *

إذا كانت الحداثة تعني في سياقها العام، تحديث وتجديد ما هو قديم، وفق ما يتوفر من إمكانياتٍ موضوعيّة وذاتيّة في مجتمعٍ من المجتمعات، بهدف تطوير حياة الفرد والمجتمع معاً، على كافة المستويات، حيث تتبيّن لنا حالات التطوّر التي حقّقها شعبٌ ما، أو دولة ما، عبر السياق التاريخي لوجوديهما. فإن مصطلح ما بعد الحداثة في سياقه العام، وكما تجلّى عند دعاته من الفلاسفة الأوروبيين بشكلٍ خاص، هو حركة فلسفيّة ظهرت في أواخر القرن العشرين، وتميزت بنزعةِ الشكِّ الواسع في قدراتِ العقل والمنطق في تحقيق التوازن الاجتماعي، والإيمان الواسع أيضاً بالنسبيّة إلى درجة فقدان الهويّة الظاهرة، إضافة إلى عدمِ الركون إلى كلّ ما يحمل قيماً نبيلةً، ويدّعي إمكانية تحقيق مجتمع العدالة والرفاه والاستقرار والأمان للفرد والمجتمع، الأمر الذي جعل دعاتها يركزون في طروحاتهم على العبث واللامعقول والنهايات، كنهاية التاريخ والفن والدين والأخلاق.. الخ.. لذلك جاءت آراء أو نظرية ما بعد الحداثة في حقيقة أمرها، كردِّ فعلٍ ضد أفكار الحداثة المُشبعة بقيمِ العدلة والمساواة والحريّة، وكلّ القيم الفلسفيّة النبيلة التي وُجدت في عصر التنوير بشكلٍ خاص، وفي سياق فترة التطور العلمي من تاريخ أوروبا، وتحديداً الفترة الممتدة من بداية الثورة العلميّة مع القرن السادس عشر بكلِّ تجلياتها، حتى منتصف القرن العشرين بشكل عام.
المثقف العربي وما بعد الحداثة:
إن من يتابع الحركة الفكريّة الفلسفيّة، والفنيّة والأدبيّة بشكلٍ عام في الساحة الثقافيّة العربيّة، يجد الكثير من المفكرين والفنانين والأدباء، قد انساق وراء تيار الحداثة وما بعد الحداثة، محاولين بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، الاستفادة من هذه النظريات أو الأفكار، بأساليبٍ ومفاهيم فكريّة جديدة تنتمي لهذه المدارس والمناهج الفكريّة، وخاصة الما بعد حداثويّة، أملاً في تجاوز أزمة الواقع العربي المتردّي في معطياته الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة. حيث أعطوا الأهمية الكبرى لمضمون النصّ، أدبيّاً كان أم فنيّاً أم فكريّاً، بعد عزله عن محيطه، وجملة ملابساته السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والفكريّة، على اعتبار أن هذا النصّ له عالمه الخاص به، وحركته وسياقاته التي تتمُّ من داخله فقط، ولا تأثير عليه من المحيط الذي يتواجد فيه، أو يسهم في إنتاجه بالأصل.
إن هذا التوجّه المنهجيّ، جاء عند هؤلاء المتبنّين لمناهجِ ما بعد الحداثة، إما هرباً من عقاب السلطات الحاكمة المستبدة والشموليّة لكلّ من يحاول توصيف وتحليل أزمة الواقع منطقيّاً وعقلانيّاً، وبالتالي إظهار أسباب أزمته وتخلفه، وإما نتيجة غياب للرؤية العقلانيّة النقديّة لديهم، وسيادة نزعة التقليد والتجريب، دون وعي أو إدراك للأسباب التي أدّت إلى ظهور هذه المناهج في أوروبا.
نقول: إن معظم محاولات التجديد التي تأتي من الحداثة أو ما بعدها، مهما كانت طبيعتها، ولا تقوم على المستلزمات الأساسيّة لتطور المجتمع والدولة معاً، والسير بهما نحو التحرّر والتقدم، وفقاً للحاجات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة التي تتطلّب بالضرورة تحطيم أو إقصاء ما أصبح تقليديّاً ومترهّلاً ومتخلّفاً منها، وفسح المجال لبناءِ بنى جديدة أكثر ملاءمة وحيويّة لخصوصيات العصر، إنما هي في الحقيقة محاولات تجديد مفتعلة أو منفصلة عن سياقها التاريخي، مهما كانت نيّات حواملها الاجتماعيين. أي هي حداثة دائرة في فراغ، وتُفضي إلى فراغٍ، وبانتظارها فراغ جديد. وبالتالي هي اتجاه حداثي مغترب، لا يلامس الحالة الوطنيّة، ولا يقارب الواقع الموضوعي الملموس أو المعيش. وهذا ما يجعلها ثقافة نموذجيّة للعقليّة الثقافيّة الزائفة التي تحاول بوعي أو دونه، تخليد حالات الانفصال بين المثقف العربيّ والحاجات الضروريّة الملموسة لشعبه. الأمر الذي يجعل هذه الثقافة تعمل على تكريسِ وضعيّةٍ اجتماعيّة معينة، تخدم قوى اجتماعيّة وسياسيّة أو طبقيّة معينة، ذات مصالح أنانيّة ضيقة في الغالب. (1)
من هنا علينا أن نبيّن عمليّة الخلط ما بين الحداثة وما بعدها… ما بين الحداثة كتوجّه عقلانيّ نقديّ، تفرضه الضرورة التاريخيّة لمسيرة المجتمعات نحو تقدمها ونهضتها، وهي فعلٌ إيجابيّ يراعي خصوصيات الواقع دون الخضوع المطلق لهذه الخصوصيات بطبيعة الحال، وبين الما بعد حداثة، كتوجّه حداثيّ سلبي، يقفز فوق الواقع وخصوصياته، بغية تحقيق مصالحٍ معينة تقوم على دوافع ذاتية إرادوية، بعلم حاملها الاجتماعي لخطورة هذا التوجّه أو دون علمه. لذلك فالموقف المنهجيّ العقلانيّ النقديّ والأخلاقيّ معاً، يتطلّب منا أن نكشف الأبعاد الحقيقة لهذا النمط من الخلطِ المنهجيّ، بين الحداثة وما بعدها وتحطيمه. فما قيمة الأدب والفنّ والفكر عموماً، إذا لم يعبّروا عن قضايا وهموم الفرد والمجتمع؟.. أو ما قيمة أدب وفنٍّ وفكر يبحثوا عن وجود الإنسان في عالم الميتافيزيقا أو الغيبيات، أو عالم البنى الثقافيّة التقليديّة، أو تحت مظلّة التخيّل والتأمّل السلبي، مع إلغاءِ الحاضر تحت ذريعة البحث عن المستقبل.. أي عن زمنٍ غير زمننا ولا يلامس قضايانا ومشاكلنا، ووضع الحلول لها، في الوقت الذي تعاني منه مجتمعاتنا الجوع والقهر والظلم والتشيّئ والاستلاب والضياع والغربة.
إن البحث عن واقعنا في تلك العوالم، الفكريّة والأدبيّة والفنيّة المفارقة للواقع المعيوش، ليس أكثر من البحثِ عن حداثةٍ أو ما بعد حداثة الاغتراب المادي والقيمي معاً، وهذا ما يجعلنا نعيش فقط، في سحر الكلمات وتراكيبها، وصورها الفنية وألوانها، وفي عالم أوهام شعرٍ وأدبٍ خاليين من أيّ مضامين إنسانيّة، سوى مضامين الدهشة التي تنتهي بانتهاءِ قراءتنا أو مشاهدتنا لتجلّياتها. أي عالم الفن من أجل الفن، وليس من أجل المجتمع.
 *كاتب وباحث من سوريّة
d.owaid333d@gmail.com
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مجلة النهج- العدد 17/ لعام 1987/ ص 214 و215
ملاحظة: أهم المدارس الفكرية والفنية والأدبيّة لتيارات ما بعد الحداثة:
– جماعة أبولو الشعرية في مصر.
– كتاب مجلة شعر في سورية ولبنان.

التاريخ: الثلاثاء1-6-2021

رقم العدد :1048

 

آخر الأخبار
بحث تحسين الواقع الخدمي والإداري في «إزرع» وزير المالية: إعفاءات كاملة للمكلفين من غرامات ضبوط التهرب الضريبي د. "عبد القادر الحصرية"..تعليمات البيوع العقارية ..تعفي المشتري من  إيداع  50 بالمئة للعقار تكريم 150 طالباً من المعاهد التقنية بحلب أنهوا برنامج التدريب العملي الصيفي في منشآت الشيخ نجار الصن... حرصاً على المال العام.. نقل الأموال المخصصة للرواتب في السويداء إلى فرع ثانٍ مصادرة أسلحة وذخائر في بلدات اللجاة بدرعا يحدث في الرقة.. تهجير قسري للسكان المحليين واستيلاء ممنهج على أملاك الدولة  نمو متسارع وجهود مؤسسية ترسم مستقبل الاستثمار في "حسياء الصناعية"  محافظ درعا يبحث مع رجل الأعمال قداح واقع الخدمات واحتياجات المحافظة مصادرة كمية من الفحم الحراجي في حلب لعدم استيفائها الشروط النظامية للنقل معالجة مشكلة تسريح عمال الإطفاء والحراس الحراجيين.. حلول الوزارة في مواجهة التعديات والحرائق المستقب... الفضة ملاذ آمن على الجيوب والأونصة تسجل ٦٠ دولاراً دخول قافلة مساعدات جديدة إلى السويداء خالد أبو دي  لـ " الثورة ": 10 ساعات وصل كهرباء.. لكن بأسعار جديدة  "النفط" : أداء تصاعدي بعد تشغيل خطوط متوقفة منذ عقود.. وتصدير النفتا المهدرجة الذهب يرتفع 10 آلاف ليرة سورية وانخفاض جزئي لسعر الصرف في مرمى الوعي الاجتماعي.. الأمن العام ضمانة الأمان  1816 جلسة غسيل كلية في مستشفى الجولان الوطني إيطاليا تقدم 3 ملايين يورو لدعم الاستجابة الصحية في سوريا وزير الطاقة :٣,٤ملايين م٣ يوميا من الغاز الأذري لسوريا