الملحق الثقافي:زهرة عبد الجليل الكوسى:
الإنسان خارج الجدران، ينطلق في رحلاته في زمانٍ محسوب، ومكان معرّف، ورحلة التأمّل محكومة بهذا الحيز، أما رحلة الأسير فتتعدّى رحلة التأمّل والقفز فوق ما هو موجود، إلى خارجِ تلك الحدود، والتجاوزات المخالفة للضميرِ الساكن، هي في محصّلتها غير عادية، إذ تحدّثنا عن وطنٍ غير معرّف، وبالتأكيد عن مبادئٍ وقيمٍ.. لكن، ودون شكّ، لا يمتلك الكلّ لغة الترجمة بأسلحتها وأبعادها، فكيف يمتلكون حقيقتها الملموسة والمُدركة؟..
وإذا كانت “الشهادة” هي الترجمة الإبداعية الأبرز لحبّ الوطن، فالاعتقال يقترب كثيراً منها، أو يتلازم معها، ولأن الفعل أقوى الدلائل لتجسيد الفكرة، فإني أبحث عن صيرورة المبدأ عند “إبراهيم سلامة”، مثله مثل: عبد الرحيم محمود، غسان كنفاني.. الخ.. لقد كان رائداً في سجنه، وفي كلماته.. “شعراً وقصصاً ورواية”، فهو لم يكتفِ بحمل البندقية، بل حمل معها “الفكر وأشكال الفنِّ الإبداعيّ”.
في بحثي عن إنصافه، أجد أنه جنديّ مجهول، أضع على جراحه بلسم وفاء، ربّما أداوي شيئاً، فقد ناضلتُ لأقدّمه وقدّمته، من جيل النكبة بامتياز، ومن أوائل الذين حملوا وزر التحرير، والحاج “رضا” والده، رجلٌ صلبٌ وقاس، أحببت قسوة وجهه، وانحناء قامته، وشعرت أنه يحمل الوطن على منكبيه، وحين حاولت الدخول إلى عالمه وطفولة ابنه، حدّثتني قسمات وجهه قبل لسانه:
“منذ أن بدأت ثورة القسام، وأنا أعمل مع الثوّار، كان عمري ستة عشر عاماً، يوم كلّفني ابن عمي “قاسم” الذي يعمل مع الكفّ الأسود، بحملِ الأسلحة وإعادتها، لكنهم لم يشركوني في عملهم، حتى حادث اغتيال أحد العملاء، وقد تمّت عملية اغتياله في مقهى بحيفا”.
يتابع بذاكرة قوية مستحضراً الأرض والأحداث إلى غرفته الصغيرة: بعد عملية الاغتيال، أعدم منفذوها الأربعة، حاولنا أن نشكّل مجموعة بدلاً عنهم، ولم نفلح، وفي سنة 1944 انتسبت إلى الشرطة، وعملت حتى عام 1948، وخلال تلك الفترة، كنا نقوم بتهريب الأسلحة، قدمت استقالتي، فكان عليّ تسليم عهدتي إلى مركز “أبو مسنسل، بين عكا وحيفا”، لكنّ السائق أفشى للمسؤول بأني شاركت بضربِ مستعمرة الياجور مع الثوّار، فقادوني إلى ضابطٍ في “الهاغانا”، واتّهموني بالتحريضِ والتعاون مع الثوّار وجيش الإنقاذ، وحكم ذلك الإعدام.. أخذوا ما لديّ ووضعوه في ظرفٍ، ونزعوا الكوفيّة وكتَّفوني بعقالي، وحاولوا وضع عصابة على عينيّ، قاومت ذلك لكن الضابط قال: “لا أريدك أن ترى الموت”.. قلت: “هذه لا تحجب الموت”..
تمرّ لحظات لا أعرف ما الذي يمنعهم من إطلاق النار، وأقرأ قصار سور القرآن الكريم، وأنطق بالشهادتين منتظراً الطلقات.. فجأة سحبوني خارج الغرفة، وضعوني في سيارة، وجلسوا على صدري.. انطلقت السيارة بنا، وتوقّفت بعد فترة، فأخذوني بين الأشجار والأغصان تضرب وجهي ورأسي، ومن ثم أنزلوني إلى ملجأ.. تركوني على “تنكة”.
لم يطلقوا النار، بل عادوا وأخرجوني من الملجأ، فاعتقدت ان إعدامي سيكون في مكانٍ آخر، وكانت المفاجأة، قيامهم بإعادتي إلى مركز الشرطة، وهناك أعطاني قائد المركز أغراضي قائلاً: “اذهب إلى الجحيم”..
عدت إلى القرية، وكنت قد اشتريت بارودة، وعندما هاجم اليهود قريتنا، حاولنا أن نصمد لكن، لا ذخائر ولا إمداد، فخرجنا من القرية الى حرش “أم الفحم” وبقينا حتى الهدنة الثانية.. في هذه الاثناء، تسللت إلى القرية، أحضرت أبقاراً لي بعتها، وتاجرت بالفحم، وكانت التجارة مُربحة، إلى أن صادروا الفحم.. أصرّ شريكي على الذهاب لاسترجاع الفحم، فعادَ مضروباً وبلا فحمٍ.. قرّر العودة إلى “أم الزيات”، وبقي هناك حتى وفاته، فاتّجهت عكس اتّجاهه، قاصداً سورية..
في قرية “اليادودة” بمحافظة درعا، بدأت متاعبي، يأخذني العمل طيلة النّهار، وأسئلة ولدي تؤرّقني، وكأنها تشكّل اتّهاماً: لماذا لا نعود؟.. كيف يمكن أن أجيب عن هذا السؤال، وأنا لا أستطيع تبرير رحيلنا، فكيف لي أن أشرح طريقة عودتنا لطفلٍ لم يدخل المدرسة بعد؟”..
هي بداية الدخول في الغربة، غربة الفلسطينيّ الذي يُغطّي مساحة حلمهِ خياماً، تتبعثر في البلدان، ويشكّل امتحاناً لنفسه، ويرفض الآخرون هذا الامتحان، وتتداخل في أعماقه عاداته مع عادات الشعوب الأخرى، هو الذي تحوّل من مجسِّدٍ لانتماءٍ، إلى لاجئٍ في أوطانٍ عدّة، يجرفه الإقطاع عاملاً وأجيراً، بعد أن كان مالكاً لأرضٍ هو سيّدها..
تمتدُّ رحلة القهر، يحاول التأقلم المؤقّت أو النسبيّ لفترةٍ كان يعتقد أنها قصيرة، ولم يخطر في باله حينَ حمل همّه ورحل، أنها ستطول إلى هذا الحدّ.
انتظرَ شروقَ شمسٍ من بيارةٍ أو من بيدر، حمل عرق من تركوه أمانة، وبين الترقّب والحلم تتآكل الأماني والأعصاب، والعيون تضيء عتمة الليل عبر دموعها، والآباء يحملون إثم الرحيل، بعد أن أصبحوا في العراء، والأبناء تقسوا قلوبهم ويأكلهم الغضب، فهم بين قسوة الهجرة وتقصيرِ الآباء، ويتّسم جيل الأبناءِ بحدّة الطباع، وساعدت الظروف الاقتصادية والاجتماعيّة، وعمّقت الجراح، ولكن لابدّ من الحياة. أيّة حياة يختارها الأبناء..
يلتحق “إبراهيم” بمدرسة “اليادودة”، وفي الصف الرابع الابتدائيّ، تُصاب عين والده، ليعمل بدلاً منه في الزراعة وبيع المنتوج.
روى لي أنه حاول أن يحرث الأرض خلف ثورين، لم يقتنع الثوران به، أحدثا تخريباً فماتت شتلات البطيخ، ولكنه يصرُّ وينجح في ترويضهما.
في تلك السنة، استأجر “طنبراً” يحمل البندورة، وفي نهاية الموسم، فكّ حبل الصناديق لافّاً إياه على يده، وفجأة ينطلق البغل.. يسحبه، ويخلّف كسرين على ساعده الأيمن. هذه الكسور يحملها، وينتقل إلى الصف الخامس، نهاية المرحلة الابتدائية.
حاولتُ أن أقلّب طيّات ذاكرته، قلت محاولةً الوصول إلى أعمق نقطة، تترسّب فيها أشياء ذات أهميّة:
“ألم يكُ هذا العمل كبيراً على طفل في عمرك؟…كيف احتملته؟!..
ردّ: “معكِ حق، أعتقد بأن الأعمار لا تُحسب بعددِ السنين، ويوم رحلنا وغادرنا أمكنة تخصّنا، كبرتُ عند كلّ منحدرٍ عاماً، أنا الذي دفن طفولته بين صبّار قريتنا، وحين أتلمّس جسدي كلّ صباح، أدركُ أنني أكبر مثل ليمونة عصيّة على العصر، أو اسمحي لي أن أعبّر بطريقةٍ أخرى، مثل وردةٍ قُصّت من جذورها، والذي قصّها يدرك أسباب فعلته ومبرّراته، لكنها ليست على استعدادٍ لتقبّل ذلك.. سيدتي، استنتجي الباقي، واكتبي الحكاية من جديد”.
كيف سأبدأ حكايته، الوقتُ حاضرٌ أمامي، ولسعات البرد أشعر بها، والطريق المنحدرة بذاكرته، كأنني اجتزتها، وعلى جنباتها أسئلته.
هل حملته قدميه، أم رعب أهله، إلى خيامٍ تمتدّ إلى الله؟.. وهل بدأت مأساتهم لحظة نصب أعمدة الخيمة، أم لحظة احتواهم العراء؟..
أسجّل.. بدأ ألمٌ يكبر دون أن يكون مبرّر وجوده مفهوماً، ولم تكن طفولته مهدّدة فقط، بل وجوده برمّته، وهنا نفهم سبب العناد والمشاكسة والصلابة، في شخصيته.. شخصية “إبراهيم سلامة”.. أعتقد أنه يمثّل نموذجاً لجيله…
التاريخ: الثلاثاء8-6-2021
رقم العدد :1049