الثورة أون لاين – رنا بدري سلوم:
كيف لهم أن يكتبوا الموت، وكتابة الموت صنعة الأتقياء، وكيف يتقن الشاعر تقوى الجوى وهو غارقٌ ببحور شعره كذنوب لا يغتسل منها كشهيدٍ تضرّج بحبرِ الحبّ والحرب؟ تساؤلات دامعة راودتني وأنا أقرأ سطور الخوف والغرق في مآتم القوافي ومنائر الأدباء في كتاب “أصابع السرطان”، أُمعنُ في حروف قصّتها المبدعة نجاح إبراهيم بحبكة مختلفة عن سواها من القصص التي تتقن نسجها، وعنصر المكان الذي ما برحناه متاهات الجسد الثائر الهارب من الموت بين أسرّةِ العزلة والعلاج الكيماوي، فبطل القصة قد تصدّر المشهد، السرطان اللعين الذي لون أبجدية ستة من الأدباء العظماء لنعاني معهم من نزيفٍ أدبي خاص أرادت إبراهيم ” أن توقد شمعة احتفاء بـأرواحهم التي لا تغيب وأعمالهم الخالدة التي ستبقى ما بقي الأدب”.
فبدأت بالشاعر الذي جافاه الإله فقال: لا يجفو” استنزف الروح إبداعات وعطاءات ووقف رغم بلاءاته متحدياً الموت، يتناسل شعراً عظيماً كما يتناسلُ الألم، وصارا الشاعر والمرض قوتين جامحتين متوازيتين، تلهثان على سكتي قطار كل واحد يسعى لأن يسبق الآخر فكتب الشاعر العراقي بدر شاكر السياب خلال ستة وأربعين يوماً ما لا يقل عن أربعين قصيدة،” يا رب أيوب قد أعيا به الداء في غربة دونما مال ولا سكن/ يدعوك في الدجن/ يدعوك في ظلمات الموت: أعباء/ ناد الفؤاد بها فارحم إن هتفا / يا منجياً فلك نوح مزق السدفا/ عني، أعدني إلى داري، إلى وطني!”.
من ثم تحدثت عن شاعر ركض نحوه الموت فأبى أن يستسلم له، فتقبل الشاعر المصري أمل دنقل مرضه خلال السنوات الأربع “سنة تمضي وأخرى سوف تأتي / فمتى يقبلُ موتي / قبل أن أصبح مثل الصقر/ صقراً مستباحاً”.
أما الشاعرة السورية سنية صالح التي كان كالسوسنة الحالمة والتي خطت آخر خيوط الغروب الذي حاولت نشره قبيل رحيلها كان حزنها أنثوي الطعم والرائحة واللون “ينصحوني بقبوله/ ذلك الموت / يغرونني بالاستسلام له/ لكن/ تأخذ الرّيح شلواً من جسدي، أجري خلفها وأعيده، وعندما تأخذ آخر وتلهو به، أهجم ثانية وأعيده، هكذا دارت الحروب على مداخل الجسد”.
بينما الكاتب المسرحي سعد الله ونوس الذي حكمنا بالأمل “لن تهدأ هذه التقلصات وأنعم بالاسترخاء، وربما بالنوم، إلا إذا بدّلت خواتيم المسرحيات كلها، وجعلتها سعيدة”. ففي ذاكرة نبوءات ونوس التي تهيء للنص الأخير والذي تعد العتبة له، يغرق الكاتب في يومياته في باريس وموقفه من الأطباء حين يتحدثون عن مرضه بشكلٍ صريح وجارح فاستخدم التخيل وخرج من حمأة الواقع المرير الذي يعيشه رغبة منه في مواجهة الألم ولحظات الغيبوبة التي تنتابه ” ما أتفه بني آدم! بين ليلة وضحاها تحولت رمة وجيفة وكان علي أن أتضاغط/ إنني أضمحل بصورة تافهة ورمزية”.
فيما وأنت تقرأ الشاعر والكاتب المسرحي محمود علوان يتسلل إلى قلبك الحزن طواعية: “ها إني عثرتُ الآن / على شيء سأفعله بلا استئذان /أموت لكي أفاجئ راحة الموتى/وأحرم قاتلي من متعة التصويب /نحو دريئة القلب /الذي لم يعرف الإذعان”.
وإن تحدثنا عن عنصر الزمن في كتاب “أصابع السرطان” خيانات الجسد الصادر عن اتحاد الكتاب العرب فلم يكن “زمن الحساسين”، كما وصفت الروائية المصرية نعمات البحيري “بعض الأشعات أشبه بآلات التعذيب في معسكرات النازية، يدرك المريض أنها فقط من أجل تدمير جهازه السمعي والعصبي، كنت أدرك على نحو آخر أن ثمة غبية ترغب في تدمير كائن رقيق مرهف الحسّ فليس هذا زمن الحساسين”. وإن تساءلنا ما الذي أوقع أدباءنا في المرض كما أجابت البحيري، هو “كآبة الروح يدفع عنها الجسد فواتير كاملة”.
أنهت كما قدمت القاصة نجاح إبراهيم كتابها باعتراف منها أن الجسد يخون، كذلك الأهل، الأصدقاء لكن ثلاثة لا يعرفون الخيانة: الله والوطن وفرح مخبوء في عينين انطوى أمامهما الغياب.