بعد أن استغرقنا في العوالم الافتراضية وجدنا أنفسنا في واقع جديد سحبنا إليه بالتدريج لنندمج معه، وربما تماهينا معه إلى درجة باتت تنسينا حقيقتنا في واقعنا غير الافتراضي.. ولو أردت أن أستعرض بعضاً من عوالم الواقع الافتراضي هذا دون أن أعددها بالطبع لأنها أكبر بكثير من أن تحصى، ونحن نغذ السير في طريق جديدة، لقلت إن الألعاب الإلكترونية قد خلقت بيئات نمت داخلها أجيال فتعلمت منها إلى جانب مهارة الحركة، وسرعة اتخاذ القرار، ورد الفعل العفوي، والجرأة على التنفيذ، والتفكير بالحلول، أقول إلى جانب هذه النقاط الإيجابية، وغيرها، قد تعلمت أيضاً العنف، وأساليب الهجوم، والاعتداء، وفنون القتال، واستخدام السلاح، ولو نظرياً.
وها هي المدارس أيضاً قد واربت أبوابها دون أن تغلقها بالكامل لتستعيض عن صفوف الدراسة بشاشات الأجهزة الذكية في تلقي الدروس من خلال معلم، أو من دونه، فإذا بالطلاب وخاصة في مراحل الدراسة الإبتدائية، والإعدادية قبل المرحلة الثانوية يجدون أنفسهم، وقد سُرقت منهم الذاكرة، يدورون في فضاء من العزلة عن أقرانهم بعد أن حُرموا من ممارسة تجربتهم الحياتية في فضاء الحياة الواقعية لصالح حضور ظاهري، أو وهمي فقط، فلا صلة مباشرة مع المعلم وباقي طاقم التعليم داخل أسوار المدرسة، ولا صداقات طفولة تنسج ذكرياتها بين مَنْ هم في الصف الواحد دراسياً إلا من خلال مَنْ يظهر على شبكة المعلومات، ولا نشيد صباح تردده الحناجر بصوت واحد لترسخ عباراته في الذاكرة، والوجدان، ولا حافلة مدرسة تضم رفاً من الصغار الذين يتسابقون في الجلوس إلى جانب النافذة، ولا سبورة داكنة اللون ترتسم فوقها دوائر المعارف، والعلوم، ولا رهبة تدخل إلى القلوب أمام سؤال المعلم الذي يوجهه إلى تلاميذه، ولا أيدٍ ترتفع في منافسة للإجابة على السؤال.. ولا زي موحد يرتديه الجميع ليتسرب إليهم بالتالي الإحساس بالتساوي، والقائمة تطول.. وكأن أجيال اليوم قد حرمتها التقنيات الحديثة من حقِ كان مكتسباً ينبض حياةً لدى أجيال سبقت.
لكن أكثر من سؤال محيّر أجده يبرز أمامي بإشارة استفهام أكبر منه: ثم ماذا عن حال أولئك الذي أمضوا مراحل طويلة من الدراسة قبل وصولهم للمرحلة الجامعية وهم لم يختبروا الجلوس في مقاعد متقاربة من زملائهم في الصف الواحد؟ وما هو حالهم عندما يدخلون في هذه المرحلة إلى الفروع العلمية التي لا غنى فيها عن المختبرات العملية لتطبيق تجاربها؟ كيف سيكون التعارف الأولي غير الافتراضي بين هؤلاء؟ وكيف ستَرسم العلاقات حدودها حال اللقاء في سنوات أعمار لم تعد في مراحلها الأولى، ولم يتدرج فيها التعارف الاجتماعي في مساره الطبيعي؟ ألن يعبِّر السلوك البشري عندئذ عن ردود أفعالٍ غير متوقعة، وحسب رأي الفيلسوف الفرنسي (جان بول سارتر) الذي يقول: بأنه لا يمكن التنبؤ بسلوك الإنسان؟ كيف إذاً ستُعقد الصداقات، وتقوم علاقات الزمالة الصحيحة، والعلاقات الصحية دون سجل سابق لها، وتجارب مختزنة منذ الأيام الأولى للالتحاق بالمدرسة؟.
كيف إذاً سيكون بناء الشخصية الإنسانية مستقبلاً بالاعتماد على تطور عوالم الافتراض، والرقمية بعد أن سُلب من الفرد حق التجربة الحياتية الملموسة التي تدركها الحواس مجتمعة؟ بل كيف سيكون التأقلم مع مفردات الحياة بعد تغيّر النظم الاجتماعية، والعلاقات التبادلية، وبما هو بخلاف القوانين الطبيعية السائدة بين البشر على مر التاريخ، ليصبح أمرها نوعاً من المحاكاة للبيئات المادية الأصلية، ولكن دون الاحتكاك المباشر معها، ودون التواجد الفيزيائي فيها فعلاً، وقد وصَّف أحد الفلاسفة المعاصرين هذا التغيير بأنه: “عبث لا طائل من ورائه، إذ أنه أشبه بمن يحاول تغيير قانون الجاذبية”.
وها هو الاكتشاف أيضاً لأجزاء الأرض، وبلدانها، ومجاهلها قد أصبح متاحاً بتقنية الواقع المعزز ثلاثي الأبعاد بحيث يستغني المستكشف، والهاوي عن أن يذهب بنفسه إلى عين المكان، فإذا به يتعرف إليه عن بُعد فقط، رغم أنه يصول، ويجول في أرجائه. ولكن.. هل يدرك حقاً أنه إنما قد حُرم من خلال هذه الوسائل من اكتشافات أخرى لا يمكن لها أن تتحقق ما لم تكن التجربة على أرض الواقع لا من خلال الأجهزة الذكية؟.
نماذج كثيرة لواقع نسج خيوطه كما شبكة العنكبوت تنسجها حول فريستها فأصبحنا داخل الشبكة، نكتفي بما يقدمه لنا هذا الواقع من آفاق مهما اتسعت فهي لا توازي أفق الحياة نفسه.. ولعلنا على مدى أجيال قريبة لن نملك إلا أن نرمي بأدوات الحضارة هذه بعيداً عنا في رحلة عودة من طريق خطرة باتجاه مواقعنا الأصلية، والطبيعية، والتي ربما كان تجاوزها ضرباً من الجنون، أو الأوهام.
(إضاءات) ـ لينـــــا كيــــــلاني