مساء الأحد قبل الماضي شهدت قاعة الرحاب في فندق أمية بدمشق إطلاق كتاب (أسعد زكاري) من إعداد وإصدار زياد كامل، الذي كتب في تقديمه: « وثق أسعد بنظرتي، وأطلعني على ذكرياته وأوراقه القديمة وسيرة حياته. حدث ذلك قبل شهر من وفاته، كأنه القدر جمعنا بتلك اللحظات الأخيرة لأخرج خلاصة نتاجه الفني من العتمة إلى النور. فكان هذا الكتاب».
ليس في كلمات المُعّد – الناشر أي ادعاء أو مبالغة فأسعد زكاري، الذي رحل عن عالمنا قبل نحو عام عن تسعين سنة، أمضى معظم حياته الإبداعية بعيداً عن الضوء الإعلامي، غير أن ذلك لا يقلل، بحال من الأحوال، من قيمة تجربته التشكيلية. لا نعرف الكثير عن العقدين الأوليين في حياة أسعد زكاري غير أنه سافر إلى الإسكندرية عام 1952 لدراسة الهندسة، وهناك استجاب لميوله الفنية فتدرب على رسم الموديلات الحيّة في مرسم الفنان الإيطالي (اوتورينو بيكى) خلال العامين الأولين لإقامته في الإسكندرية. ومن ثم بدأ بالتردد على مرسم الفنانين سيف وأدهم وانلي اللذين كانا بدورهما قد درسا الفن في مرسم بيكي في النصف الأول من ثلاثينيات القرن الماضي، قبل أن يفتتحا مرسمهما الخاص المشترك في منتصفها. وقد تأثر زكاري بتجربة سيف وانلي الحداثية، وقد بدا تأثير وانلي واضحاً في معرض (اسكندراني) جمع زكاري مع اثنين من الفنانين المصريين، وكذلك في معرضه الشخصي الأول في صالة الصداقة الفرنسية بالإسكندرية، دون أن يعني ذلك بحال من الأحوال اختفاء خصوصية التلميذ خلف خبرة أستاذه. ومنذ بدء مشاركته في المعرض السنوي عام 1959 لقيت تجربته اهتماماً واسعاً، حتى أن الكتاب الذي أصدرته وزارة الثقافة مطلع الستينيات عن المعرض السنوي منذ تأسيسه قد اختاره لسرد ملخص سيرته الذاتية ضمن ثلاثين مصوِّراً من أصل 148 فناناً شاركوا في المعرض منذ تأسيسه عام 1950حتى ذلك العام.
يقع كتاب (أسعد زكاري) في مئة وأربع وأربعين صفحة من القطع الكبير، بإخراج أنيق يحمل توقيع الفنان محمد الصيرفي، وطباعة فاخرة مع غلاف سميك وقميص ورقي تضمنت ردتاه قطوفاً من نصوص للدكتور سلمان قطاية والدكتور اسكندر لوقا والأستاذ غازي عانا باللغتين العربية والإنكليزية كحال جميع نصوص الكتاب، واحد للفنان الراحل، والأساسي للفنان يوسف عبدلكي. وكتب فيه: «يلفت النظر أن زكاري اعتمد على مصادر الفن الشعبي لا لتكريسها بل للعمل على شحنها بطاقة جديدة، فقد عمل على خطين متوازيين في هذا المنحى الذي كرّس له سنوات حياته الأخيرة، إذ راح يرسم العناصر الشعبية المعروفة بشكل عفوي فزاد في عفويتها الأصلية عفوية خطوطه الراقصة بعيداً عن توضيحية الرسوم الشعبية، وللمضي في هذا المنحى إلى مداه لجأ في إحدى تنويعاته على العناصر الشعبية إلى طباعة خطوط أعماله بواسطة الشاشة الحريرية، ومن ثم أخذ يطلق لمسات ألوانه على هذه المساحات المطبوعة ماضياً إلى ألوان متوافقة أحياناً ومتناقضة أحياناً أخرى، معتمداً الدرجات الدافئة هنا والحارة هناك واللمسات العريضة في هذا العمل والدقيقة القصيرة في ذاك. هكذا اللوحة بقدر انتمائها إلى فنوننا الشعبية منتمية إلى نزعات حديثة جريئة تجريبية لا تقف عند حدّ مرسوم بل تنطلق إلى فضاء الاحتفال بفرح الألوان لتصنع في النهاية
وإلى ما سبق ضم الكتاب صوراً لمقالات عن تجربة زكاري بأقلام سلمان قطاية واسكندر لوقا وعفيف البهنسي وطارق الشريف ونجاة قصاب حسن، وصوراً فوتوغرافية، ونحو تسعين صورة ملونة للوحات مرسومة بالزيت على الورق والقماش والزجاج، وبتقنية الشاشة الحريرية.
في الندوة المرافقة لإطلاق الكتاب استعاد النحات والناقد غازي عانا نصّ فيلم Zok الذي أعده للفضائية السورية عام 2012 برفقة مقاطع من الفيلم، فقال: «Zok .. توقيع الفنان الذي بقي يعتمده في لوحاته منذ حوالي الستة عقود وحتى آخر لوحة رسمها، بدا واضحاً على لوحات المعرض الذي أقامه في المتحف الوطني بدمشق صيف عام 1956، والذي شكّل في وقتها مفاجأة للجمهور من الهامش الكبير للحرية التعبيرية الذي تنقّل خلاله الفنان من الواقعية الرصينة إلى التكعيبية والانطباعية وصولاً إلى حدود التجريد الصرف»
الفنان والإعلامي أكسم طلاع توقف عند أهمية الحدث فقال: «هذه المناسبة الاحتفائية لم تكن تحصل لولا ذلك الشاب الذي يعمل في المجال الفني والتشكيلي، وفيما يخصّ تجربة أسعد زكاري فقد عمل زياد كامل منذ العام 2012 على فهم واستيعاب تجربة زكاري كاملة، وبالتالي كان لا بدّ من إنجاز هذا الكتاب عن الفنان وأعماله ليتمكّن متابعو الفن التشكيلي من الاطلاع على هذه التجربة »
من المؤكد أن هذه المناسبة تستحق الاحتفاء كونها تقدم مساهمة خاصة بالغة الأهمية في العمل الثقافي التشكيلي. وبأنها تقدم نموذجاً مشرقاً ملهماً لآخرين.
إضاءات- سعد القاسم