كثيرة هي النصوص الروائية التي تحولت إلى أعمال سينمائية، أو تلفزيونية.. وكثير منها ما فاز بجوائز عالمية، وظل يتصدر قائمة أحسن الأفلام، والمشاهد يتساءل عن سر هذا النجاح الذي لم يخبو وهجه على مرور زمن يقاس بالعقود، أهي براعة النص الذي استأثر بالإعجاب لدرجة تحويله لعمل مرئي يحظى بمشاهدة أكبر عدد من الناس ممن لم يطلعوا على النص المكتوب والمطبوع في كتاب؟ أم أنه (السيناريو) الجيد مكتمل الشروط؟ أم هي براعة المخرج الذي استطاع خلق أجواء القصة مستعيناً بالديكورات، والمؤثرات البصرية، والخدع السينمائية؟ أم هو تفوق الممثلين في الأداء الجيد الذي لا يدع مجالاً للشك في الإتقان واستحضار حقيقة الأدوار التي يلعبونها بما يتطابق مع ملامح الشخصيات التي يجسدونها؟ أم أنه اجتماع كل هذه العناصر، وتكاملها مع بعضها بعضاً؟.. بل إن عدم التكامل هذا يجعل الإخفاق عنواناً، فكم من الروايات تحولت إلى أعمال تعرضها الشاشة لكنها لم تحظ بتجسيدها بصورتها المتوهجة التي خرج بها كاتبها، أو أنها نالها مما يسيء إليها ويفقدها رونقها.
إن قوة النص الأدبي تخدم العمل السينمائي، وهو بدوره يخدم الآخر الأدبي في ذيوع اسم الكاتب والكتاب ليس على نطاق محلي بل عالمي أيضاً مما يستقطب له أعداداً كبيرة من القراء في مختلف البلدان، سواء ممن شاهدوه سينمائياً وظلت شخوص النص ملتصقة بالممثلين الذين أدوا أدوارها، أو ممن سمعوا ولم يشاهدوا، وهؤلاء أكثر حظاً ربما من سابقيهم وهم يستمتعون بالقراءة ويُعملون الخيال في نسج فضاءات المكان، ورسم تفاصيل ملامح الأبطال.. وتبقى قراءة النص قبل مشاهدته على الشاشة تمنح مساحة أرحب لفهم أبعاده واستيعابها بشكل أعمق تعززه المشاهدة فيما بعد، فتكون المتعة أكبر.
إلا أن العنصر الأهم في السينما والذي يجعل الفيلم يحقق نجاحاً له سواء أكان مقتبساً عن نص أدبي، أو أنه كُتب على شكل (سيناريو) بقصد السينما، أقول إن العنصر الأهم هو قدرة الصورة على تجسيد روح النص بحيث لا يخرج المرئي بثوب آخر، أو يبدو غريباً عنه.. فمن التحديات الصعبة هي ترجمة المتخيل إلى صورة تكون هي الأقرب لمفردات النص.. وهو عمل فني صعب التنفيذ لأنه ليس مجرد كلمة تُترجم، ولا لوحة تُرسم، ولا نغماً يُعزف.
إن تطور تقنيات السينما قد ساعد كثيراً في عملية الإخراج، والديكور، واستحضار أجواء الكلمة المكتوبة في إطار الصورة، إلا أن روح النص تبقى أمراً آخر له خصوصيته في براعة التعبير عنه رسماً، ولحناً، وإضاءة، وأداءً تمثيلياً، وإطلاقاً للمشاعر والانفعالات كمارد يخرج من قمقمه ليحقق المستحيل، وكأن تحويل الكلمة إلى صورة مرئية هي كتابة جديدة لها إلا أنها توازيها قوة وتاثيراً، ولا تنتقص منها، لا بل تضيف إليها من خلال عناصر مجتمعة لجهد جماعي.
ورغم أن السينما تظل كياناً مستقلاً له كتّابه الذين يحترفون كتابة السيناريو السينمائي، وما يعرف أيضاً بالمخرج المؤلف الذي يتولى الأدوار مجتمعة، ويتقن لعبة الكلمة والصورة، فالكلمة تحتمل أبعاداً أكبر من حدود حروفها، وعلى الصورة أن تأتي بالمعنى العميق لها.. إلا أن علاقة السينما مع الأدب تظل وثيقة، ومتجددة على الدوام، فاقتناص النص الأدبي الجيد مع ما يتوفر الآن من إمكانات إخراجية هائلة للسينما بفضل التطور التقني يعتبر مشروع نجاح قائم باستمرار تؤكده العوائد المالية الكبيرة التي تحصدها الأفلام.
والملاحظ الآن أن السينما سواء العالمية منها أو العربية باتت في مأزق البحث عن أعمال أدبية تستحق التبني لتخرج إلى المشاهد الذي لم يعد يستمتع بأفلام مقتبسة عن روايات إلا فيما ندر، فتقدم له عملاً تختزنه الذاكرة ولا يغيب عنها بسهولة.. ولطالما أنقذ الأدب السينما في جميع مراحلها التي مرت بها بدءاً من الأفلام بالأبيض والأسود وصولاً إلى ما وصلت إليه الآن من إبهار بصري.
إن رحلة النص من الورق إلى الشاشة تجسد علاقة لا تنفصم بين الكلمة والصورة كما بين الجسد والروح.. ليظل استحضار روح الأجواء، والأشياء هو المبتدأ والنهاية، وهو المقصد، والغاية لكل عمل سينمائي يطمح لأن يُكتب له الفوز، والنجاح.
إضاءات – لينــــــــا كيــــــــلاني