الملحق الثقافي:وجيه حسن:
إنّه جزءٌ منْ عنوانٍ أو تعريف أو مصطلح، أطلقه ذات يوم، الفيلسوف الألماني المثالي «إيمانويل كانط»، هذا الجزء يردّ فيه «كانط»، على سؤال: «ما التّنوير»؟.. «التّنوير»، أو «الأنوار»، يعني فيما يعنيه: خروج الإنسان عنْ «قصوره العقلي»، الذي يبقى رَازِحاً فيه بسبب خطيئته زمناً ما! وحالة «القصور العقلي» تعني: «عجْز المرء عن استخدام عقله، إذا لم يكن مُوجَّهاً منْ قِبَل شخصٍ آخَر»!.
والخطأ كلّ الخطأ، يقع علينا – نحن بني البشر – إذا كان هذا العجز ناتجاً، لا عن نقص في العقل، بل عن نقص في التصميم والشّجاعة والإرادة على استخدام العقل، من دون أنْ نكون مُوجَّهِين من لدن أُناسٍ آخَرين!! بهذا المنْحَى، وبهذا المعنى، يقول «كانط»: «لتكنْ لديك الشّجاعة والجرأة على استخدام عقلك أيّها الإنسان»! وعليه، فإنّ موضوعة «التّنوير»، أو «الأنوار» مرتبطة بشكل أساسي، بمدى جرأة الإنسان على استخدام هذا العقل بشكلٍ مُستقلّ، أو عدم جرأته! السؤال الأهمّ بهذا السّياق: لماذا يتحدث «كانط» عنْ موضوعيّ «الجرأة والشّجاعة»، في مجالٍ يبدو أنه يحتاج فقط «للتثقيف والتعليم»، ليس إلّا؟ سؤال مُوَالٍ: ألا يجيء «التّنوير» منْ تلقاء ذاته، إذا ما تعلّمنا، ونِلْنَا الشهادات الجامعية، وكثرت معارفنا، وامتلأت ذاكراتنا وأدمغتنا بأنواع العلوم على تعدّد مسمّياتها؟ سؤالٌ تابعٌ: (ما الشيء الذي يمنع الإنسان من امتلاك الشّجاعة والجرأة على استخدام عقله، والخروج عنْ قصوره العقلي)؟ سؤال رابع: ما الشيء الذي يمنع الفرد منْ أنْ يبلغ سنّ الرّشد والتعقّل والاتّزان؟..
للإجابة عن كلّ هذا، يقول الفيلسوف «كانط»: (ليس هناك إلا طريقة وحيدة لِنشر «الأنوار»، هي: «الحرية»، ولكن ما إنْ ألفظ هذه الكلمة، حتى أسمعَهم يصرخون، منْ كلّ حدبٍ وصوب: لا تفكّروا، حذارِ من التّفكير؛ مسؤول العسكر يقول: «لا تفكّروا، تدرَّبُوا»، جابِي الضّرائب، يقول: «لا تفكّروا، ادْفعُوا»، الكاهن يقول: «لا تفكّروا، آمِنُوا») !! هكذا رأينا أنّ «كانط»، قد سمَّى العقبات أو بعضها، بأسمائها، دون تهيّب أو مناورة أو مراوغة، فقد حدّد هُويّة المسؤولين عنْ منْع الناس من استخدام عقولهم، وتَرْكِها مُعَطَّلة بلْهاء! أعتقد هنا وأخمّن، أنّه يشير في مقصده العميق، إلى شيءٍ أبعد منْ هذه العقبات، على أهميّتها، إلى شيءٍ أشدّ هولاً ورُعْباً وترقّباً.. إنّه يشير إليه بطريقة غير مباشرة، لكنّه مُتضمَّن حتماً طَيَّ كلامه!.
بناء على ما وردَ، فإنَّ «الشّلل العقلي»، قارئي العزيز/ قارئتي العزيزة، عقبةٌ كَأْدَاء، ودَاءٌ عُضَال، وهنا لبُّ المسألة، وبيتُ القصيد! وفي نسيج السّرد السابق، أزْعم – وأرجو أنْ أكونَ مُخطئاً جدّاً – أنّ العقل العربي المُعاصِر، لا يزال يراوحُ مكانه، عند هذا الإطار عينِه، من دون أيّ تقدّم يُذكَر؛ لا يزال يقف هنا، على تلك النّقطة الحَرِجة، ينظر إلى الأمام، بعينين ثاقبتين، مُحاوِلاً أنْ يقفزَ فوق العقبة ليجتازَها ويتجاوزَها، لكنّه بِكلّ مرّة، يتراجع عنها مُضَعْضَعاً خائب الرَّجاء! ذلك أنَّ العقبة الكَأْداء من الهول والضّخامة وحائط الصدّ، بحيث إنه ترتعدُ أمامها فرائِصُ الرّجال، وألبابُهم والإرادات! فليس الوقوف ضدّ «العقبات الخارجية» هو الصّعب والعسير، وإنّما – بالمقام الأوّل – الوقوف ضدّ «العقبات الداخلية»، ضدّ الانغلاقات والتّعقيدات والخزَعبلات والمفاهيم الخاوية البلْهاء، التي تشكّلتْ في أعماقنا وذواتِنا وعقولنا وسلوكياتنا، تلك التي تحجبُ عنّا النّور والأنوار، والضّياء والبَهاء، وأشعّة الشمس «رائعة النهار»، ذلك أنّ اكتناز الرّعب، وتخزين الاستكانَة، والرّكون إلى الاستقالة، والتكلّس، والتحجّر، وتضييع الحوار هباءً – طيلة الأزْمنة المُتعاقِبة – ينتهي ذلك كلّه أخيراً، لأنْ يصبح «قانون الذّات الداخلية» تماماً؛ تصبح «الذّات» كلّما همَّت بالنّهوض والوثوب والوقوف «على قدَمَيْها» بقامةٍ كالرّمح، وبجسد كشجرة الحور، منَعَها كابِحٌ منْ جوّانيّتها، فأقعدَها عن الوثوب والانطلاق! بمعنى آخَر، أنها تصبح مُسَيَّجَة بِسياج الرّعب والتقاعس والخواء، بمعنى أوضح، تصبح عاجزة عنْ أيّ تفكيرٍ شخصيٍّ حرٍّ بنّاء؛ حينها وعندها، تصبح الرّوح الإنسانية هي السَّجين والسجّان بوقتٍ معاً، لذلك هي مُضطرّة دائماً، لأنْ تخوض عراكاً مريراً مع ذاتها أوّلاً، منْ أجل الحرية الشخصية، أو استخدام العقل شخصياً! وبكلّ مرّة، كان يفكّر فيها المفكّرون العرب، للنّهوض على أقدامهم، واستخدام عقولهم بِحُرِيّة، كان هناك شيءٌ ما «مِنْ تحت، مِنْ فوق، لا أدْرِي ما هو»، يضغط على رؤوسهم، يكبسُ عقولهم، يُرجعهم إلى مرتبة القصور العقلي، نادِمين، مُحبَطِين!! وحتى لا أجافي الحقيقة، أو أبتعد عن البوصلة والسَّمْت الصحيح: العدوّ موجودٌ في دواخلنا، لا بالخارج، أو فلنقلْ بشكلٍ سافرٍ وصريح: (عدوّ الداخل أشرسُ ألفَ مرّة منْ عدوّ الخارج، والانتصار عليه ودَحْره والتخلّص منه، أصعب بمليون مرّة)..
بناءً على ما ورد، فإنّ «التّنوير» – كما وردَ بالسّياق – لنْ ينبثق إلّا من الدّاخل، فنحنُ نعيش ببلادٍ مُشمِسَة، مُشرِقة، مُفعَمَة بالضّياء والنّور والحرارة، ومع ذلك، فليس لدينا «تنوير»، بالمعنى العلمي والموضوعي والواقعي لهذه الكلمة، هذه حقيقة لا مِراء فيها، على وجه القطع والبتّ والتأكيد! وبلاد الغرب في أغلبها الأعمّ، تعيش في بلاد الضّباب والظلام، والمطر العميم، والبرد القارس، والثلوج الطاغية، ومع ذلك، فقد شهدتْ عصر «التّنوير» والنهضة والارْتقاء، وعَرَفَتْ بتصميم وشجاعة وإرادة، كيف تتحرّر منْ عُقَدِها القديمة البالِية، منْ تحجّرها العقلي، وتنطلق حرّةً قوية، متطلّعة إلى المستقبل، بإرادة من فولاذ، بعقول متنوّرة متفتّحة، وبذا وصلتْ إلى ما وصلتْ إليه..
زبدة القول، وخاتمة السَّرد: «التّنوير، أو «الأنوار»، سيجيءُ من الدّاخل، «أي منْ عقلِ الإنسان نفسه، من جوّانيّته، أو لا يجيء»، وكفَى اللهُ الناسَ جميعاً شرَّ الجهل والتّجهيل، والظلم والإظلام، والسُّخف والإسفاف، وجعلَنا من أرْباب العقول المُنِيرة المُسْتنِيرة، من أصحاب الإرادات الصّادقة، على طول المَدى..
التاريخ: الثلاثاء27-7-2021
رقم العدد :1056