في مطلع الحديث كان ثمة إشارة إلى رسم كاريكاتوري يأسى على انحسار الكتاب، كان بمثابة تحية للبرنامج العريق الذي لا يزال يحتفل بكل كتاب جديد، وبالمؤلف الذي هو في الوقت ذاته المدير العام للهيئة العامة السورية للكتاب التي لا تزال في مقدمة دور النشر العربية رغم التحديات الهائلة التي تواجهها منذ بداية الحرب على سورية، وبالمشاركين في الندوة: متحدثين ومستمعين.
الحديث عن ندوته الإذاعية الأشهر والأقدم (كاتب وموقف) التي استضاف فيها الإعلامي العريق الأستاذ عبد الرحمن الحلبي مساء الأربعاء الماضي مؤلفات الشاعر والباحث والمترجم الدكتور ثائر زين الدين، بحضور المؤلف، ومشاركة الشاعر بيان الصفدي والباحث محمد طربيه وكاتب هذه السطور، وبموازاة العدد الكبير لتلك المؤلفات (نحو ستين كتاباً)، واتساع طيفها من الشعر إلى الدراسات والبحوث والترجمة والعلوم الهندسية، تنوعت واتسعت أوراق المنتدين لتحيط – ما أمكنها – بذلك التنوع الكبير الواسع، وهو أمر كان متعذراً في الحيز الزمني الصغير، كما هو متعذر اليوم في هذا الحيز المكاني، لذا فإن السطور التالية ستدور حول موضوع وحيد منها هو علاقة الكلمة بالفنون التشكيلية استناداً إلى ما جاء في دراستي المؤلف المتكاملتين في كتابيه: (تحولات شجرة الزيزفون الضائعة) الصادر عام 2015 عن الرواية والفن التشكيلي، و(ضوءُ المصباحِ الوحشيُّ) الصادر عام 2020 عن الشعر والفن التشكيلي.
منذ إشراقات المدرسة الانطباعية في الفن التشكيلي أواخر القرن التاسع عشر اتسع الحديث عن استقلال الفن التشكيلي عن الأدب باتجاه تأكيد خصوصيته الذاتية، وساهمت التحولات التالية في الفنون التشكيلية بنمو هذا التوجه حتى بلغ أقصى درجاته مع فنون ما بعد الحداثة، غير أن ذلك التوجه لا يمكن له إلغاء تاريخ طويل من العلاقة المتبادلة بين الأدب والفن التشكيلي، وهو ما عملت دراستا الدكتور ثائر زين الدين على تسليط الضوء عليه، ومن المفارقات ذات الدلالة أن كتابه قد حمل عنوان (ضوءُ المصباحِ الوحشيُّ) نسبة إلى لوحةِ (٣ مايو ١٨٠٨) أو (الإعدام رمياً بالرصاص) لفرانشيسكو غويا، حيث لا يزال ضوء مصباح فصيلة الإعدام الفرنسية على جسد الفتى الإسباني الأسير يثير التداعيات والشجون، ومع أن (ضوءُ المصباحِ الوحشيُّ) هو الأحدث صدوراً إلا أنه الأول بين الكتابين إذ تعود جذوره إلى مطلع عام 2010 حين وضع المؤلف كثيراً من الملاحظاتِ عن علاقةِ الفن التشكيلي بالشعر، نمت لتصبحَ مقالاتٍ وبحوثاً تُنشرُ في بعضِ الدوريّاتِ ويغلبُ عليها الإيجاز والتكثيف، ويذكر المؤلف أنه لم يتوقف عن التفكيرِ في هذا الموضوع، ولا سيما أنَّهُ كان يُمثِّلُ شطراً كبيراً من عمله على شعره نفسه.
ينقسم (ضوءُ المصباحِ الوحشيُّ) إلى ستة فصول تتناول الأعمال التشكيلية في خيال الشاعر، والشعر الذي يتحدث عن عملٍ تشكيلي، والشعر الذي يستلهم الفنان التشكيلي وعمله، والشعر الذي يستلهم موضوع العمل التشكيلي، والقصيدة البصرية والشاعر فناناً تشكيلياً، وتحت هذه العناوين يزخر الكتاب – الدراسة بعدد كبير من المواضيع التي تحلل أعمالاً فنية وأدبية من الشرق والغرب، ويليها أكثر من خمسين صورة منتقاة بدقة للوحات ومنحوتات طالتها الدراسة، إضافة إلى نصوص كتبها أدباء بصياغات تشكيلية وتحديداً حروفيات الشاعر البولوني – الفرنسي أبولينير ، ومع أن المؤلف هو شاعر فإن الدراسة قد ركزت على تأثير الفن التشكيلي في الشعراء بما أغنى نصوصهم وجددها وبعث فيها حيوات أخرى، وهو خيار واضحٌ للمؤلف إذ يقول في التمهيد لدراسته: (من التعسفِ بمكان أن لا ننتبه إلى أثر الفن التشكيلي في الأدبِ وأسبقيّة النحت والتصوير مثلاً على كثيرٍ من الروائع الأدبيّة).
أما في كتاب (تحولات شجرة الزيزفون الضائعة) الذي استوحى عنوانه من شجرة زيزفون وصفها (آلان روب غرييه) في إحدى رواياته، فيتناول الدكتور ثائر في دراسته عنوانين رئيسين: العمل الفني القادم من خارج النص السردي، والنص السردي حين يخلق العمل الفني، وفي الحالين يستحضر أمثلة من روايات عالمية وعربية، إلا أنه مما يلفت النظر هنا أنه في الفصل الذي يتحدث عن أعمالٍ فنية وردت في سياق أعمال روائية لا نجد أمثلة عربية، وهو أمر مشابه إلى حد كبير لما كان عليه الحال في كتابه الأول حيث تكاد تغيب الأشعار العربية التي تصف عملاً تشكيلياً، باستثناءات قليلة أهمها قصيدتي عمر ابو ريشة عن تمثال فينوس وتماثيل معبد كاجوراو في الهند.
وأرى أن ذلك يترجم ضعف حضور الفن التشكيلي في نتاجنا الأدبي، ويعكس ضعف حضوره في حياتنا الاجتماعية.
إضاءات – سعد القاسم